الأربعاء، 9 يوليو 2025

رحلة البقاء أو الفناء من بلطيم المصرية حتى لندن

قبل عشرة أعوام ميلادية، تمامًا وكمالًا، وعبر البحر الأبيض المتوسط "بحرنا جميعًا" لم يكن معنا سوى الماء، والهواء، والسماء؛ رفاقًا أوفياء في رحلةٍ مزدحمةٍ بالآمال والآلام، بالعذاب والرجاء، بالإرادة والتصميم، بالطموح والتحدّي.

كنّا نُبصر شبح الموت والهلاك، كما نلمح ومضات الحياة والوجود. لكنّ إيماننا العميق بالأقدار، وبالنهايات المكتوبة في الزمان والمكان، هو من رسم لنا لوحةً باسمة، كأنّها الموناليزا، في زرقة المياه المالحة.

"الأمل" هو القارب الذي نخوض به بحر الحياة لنصل إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. وتلك المركبة كانت هي الأمل الذي خضنا به بحر الحياة، فأوصلنا إلى شاطئ الأمان والاطمئنان بكل سلام.

وبما أن الثلاثة كانوا خير رفقاء، وأصدقاء، وأهل ثقة لنا جميعًا، فلم يتركونا إلا ونحن في أمان على الشاطئ الشمالي الآخر، المليء والمغمور بكل معاني الحياة، بعد معاناة استمرت أحد عشر يومًا داخل أحد أعظم بحار العالم على الإطلاق، ألا وهو البحر الأبيض المتوسط The Mediterranean Sea أو بحر الروم سابقًا. وقد كان بحرنا جميعًا، قولًا وفعلًا.

دارت معركة سامية، فلسفية، ومستحقّة بيني وبين نفسي منذ أن وعيت في هذا العالم الحر والمقيّد. معركة عنوانها: أن أعيش مستقبلي في واحدة من هذه الدول الأربع فقط، وهي "بالترتيب" الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، المملكة المتحدة، وأستراليا.

وذلك لأسبابٍ عديدة، أبرزها عامل اللغة الإنجليزية، إضافة إلى القوة الاقتصادية، والعلمية، والثقافية، والتقنية، والحضارية التي تتمتع بها هذه الدول، فضلًا عن ارتباطها الوثيق ببعضها في الثقافة، واللغة، والنظام، والفلسفة، بفعل الإرث المشترك الذي خلفته الإمبراطورية البريطانية سابقًا، تلك التي لم تكن الشمس تغيب عنها في الماضي القريب.

بمجرد أن عزمت أمر الهجرة، وتأكدت أن أوروبا هي المبتغى، انحصر اختياري في المملكة المتحدة. ومن هناك انتقلت بخيالي من بريطانيا العظمى إلى إنجلترا، ومن إنجلترا إلى لندن، حتى توقفت عند قلبها النابض. دون ذلك، لم يكن للطريق قيمة. ذلك كان مقصدي، وتلك كانت أمنيتي، وذاك هو طموحي الأكبر.

لو عدنا القهقري إلى الوراء قليلاً، سأجد نفسي مقيداً ومحاطاً ومقتنعاً بحكمة وفلسفة "الغاية تبرر الوسيلة"، حيث ركضت وجريت وحاولت وبذلت الكثير من الجهد والمال والفكر والوقت وصبرت كما صبر النبي أيوب عليه السلام، وذلك فقط من أجل الدخول لهذه الدول العظمى خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

طرقتُ أبوابًا شتى، وسلكت مساراتٍ متعدّدة: من برنامج اللوتري منذ عام 1999، إلى القبول الجامعي، إلى السياحة، إلى برامج الأمم المتحدة، وغيرها من السبل التي ظننتُ أنها قد تُفضي بي إلى الحلم.

كل عام أخفق فيه، كنت أعيد الكرة وأحاول بكل روح وتحدٍّ وإصرار في العام التالي له. وكان صبري وعزيمتي يزدادان عامًا بعد عام، أكثر فأكثر وأعمق.

إما أن أعيش حياة كريمة ومستحقة ومستدامة في إحدى هذه الدول العُظمى، أو أبقى في بلدي السودان حتى الرحيل عن هذه الدنيا.

في الفترة التي تلت عام 2005م، بدأ الاتجاه نحو أوروبا يأخذ حيزًا ومكانًا في خططي وطموحاتي المستقبلية، كنوع من التعويض عن الإخفاق في حال عدم توفيقي في دخول الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا.

كما ظهرت أثناء وبعد تلك الأعوام ظاهرة السفر إلى إندونيسيا ومنها الهجرة بحراً إلى أستراليا، ولكن هذه الفكرة كانت في آخر أولوياتي.

لا أخفي عليكم سرًّا أنني جربت تقريبًا، وحاولت، ودخلت بنفسي إلى عدة سفارات أوروبية مهمة في الخرطوم، وبمختلف الطرق، لكنني لم أتوفق في أي منها طوال تلك السنين الخالية والغابرة.

حاولت أكثر في عام 2010م أثناء مكوثي في القاهرة لمدة أربعة أشهر، ولم أصل إلى شيء حينها. كان الإخفاق سيد الموقف واللحظة، ثم رجعت إلى السودان لأجدد المحاولات تلو الأخرى.

لم أستسلم لليأس، فلا مكان له عندي، ولم يكن ولن يكون. نعمة الصبر سلاح مهم، وحيوي، وفعّال. لا بد من روما وإن طال السفر!

نتيجة لتلك المحاولات المتكررة، اضطررت إلى تغيير جواز سفري عدة مرات، متنقلًا بين ما كان يُعرف بالجواز الأخضر القديم والجواز الإلكتروني الحديث.

بعد خمسة عشر عامًا من الانتظار والترقب، سنحت لي أخيرًا الفرصة الذهبية التي طالما حلمت بها، فكان تحقيقها بمثابة تتويج لصبري.

كان ذلك في عام 2014، وبالتحديد في سبتمبر، حين حانت مواعيد المقابلة الشخصية في السفارة الأمريكية، في المدينة التي تسكن أعماقي وأعشقها حدّ التأمّل والانخطاف "القاهرة الساحرة".

تم الأمر بعد ترتيبات مكثّفة ودقيقة وضرورية، بالتنسيق مع الزول الجميل "جمال لوتري"، الذي لا تزال ممرات وظلال ومكاتب عمارة دوسة الشهيرة في قلب السوق العربي بالخرطوم شاهدةً على تفاصيل تلك المرحلة.

أذكر جيدًا أنني غادرت العاصمة السودانية، الخرطوم، وتحديدًا الحي الذي نقيم فيه "الحلة الجديدة" وما جاورها من أحياء وسط الخرطوم، متوجهًا إلى القاهرة صباح يوم الإثنين الموافق 1 سبتمبر 2014م، عبر الخطوط الجوية المصرية، من مطار الخرطوم، على متن طائرة من طراز إيرباص A321.


دخلت أروقة وغرف وممرات ودهاليز السفارة الأمريكية الضخمة والفخمة في القاهرة، والواقعة في حي غاردن سيتي الراقي بوسط البلد، صباح يوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر 2014م.

ولأسباب كثيرة يصعب ذكرها أو شرحها، رفض موظف السفارة الأمريكية أوراقي، وحُرِمت من تأشيرة الدخول إلى بلاد "العم سام"، وذلك بعد أن أخذوا بصمات أصابعي كاملة.

من جانبي، أغلقت ملف الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها جارتها كندا، في نفس اللحظة بـ"الطبل والشمع الأحمر"، وفتحت ملف الهجرة إلى أوروبا بكل السبل، شرعيّة كانت أم غير ذلك. وذلك لأنني جربت وبذلت كل ما في وسعي، فلم لا نجرب طرقًا أخرى؟

ولمعرفتي الكبيرة بالقاهرة منذ زيارتي الأولى لها عام 2010م، صممت على البقاء والعمل فيها حتى صيف العام التالي، أي صيف عام 2015م، وأنا ما زلت حينها في صيف عام 2014م.

فالهجرة غير الشرعية نحو أوروبا كانت نشطة عندما خرجت من السفارة الأمريكية خالي الوفاض، لكنها تكون أكثر أمانًا في أشهر مايو، ويونيو، ويوليو، وأغسطس، ونوعًا ما في سبتمبر وأكتوبر. لذا، لم أُجازف حينها، وفضّلت البقاء.

أشعر بواجب الامتنان لكل من وقف إلى جانبي خلال تلك المرحلة، مقدّمًا وقته وفكره وماله، منذ لحظة مغادرتي السودان حتى إتمام مقابلتي في السفارة الأمريكية، بل وحتى بعدها. ويأتي في المقدمة أهلي وأصدقائي في السودان، وأوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، ودول الخليج، ومصر. فمن لا يشكر الناس، لا يشكر الله.

خلال فترة وجودي في مصر، التي امتدت لأكثر من تسعة أشهر، وحتى موعد بدء موسم الهجرة إلى الشمال من جديد، عزمت على المحاولة للسفر إلى دول أوروبية مختلفة، وخاصةً دول شرق أوروبا، التي لديها تأشيرات دخول خاصة، لكونها غير منضوية تحت فضاء الشنغن.

وقد حاولت التقديم إلى هذه الدول: روسيا، أوكرانيا، صربيا، بلغاريا، رومانيا، البوسنة والهرسك، ألبانيا، الجبل الأسود، مقدونيا الشمالية، بالإضافة إلى تركيا.

خطتي كانت أن أصل أولًا إلى تلك الدول، ثم أواصل منها إلى أغنى دول أوروبا، وعلى رأسها بريطانيا. لكن دخول غرب أوروبا من هناك كان يتطلب اجتياز طريق شهير بوعورته وطوله وقسوته، يسير عليه مهاجرون من مختلف أنحاء العالم، ويُسمى "درب النمل"، ويمتد عبر ثماني دول تقريباً في شرق ووسط القارة.

كالعادة، يا سادة، ظل جواز سفري بلا أي تأشيرة، تمامًا كما كان منذ البداية. ولكن، في ظل وجود فرصة للهجرة غير الشرعية عبر بحرنا المتوسط من الأراضي المصرية، اتخذت قرارًا بالانتظار حتى الصيف التالي مهما كلفني ذلك، وهذا ما حدث على أرض الواقع.

لم أكن أخوض هذه التجارب بمفردي، بل كان إلى جانبي بعض أقاربي وأصدقائي، ومنهم سامي سيد أحمد (هُرَّدة) وإبراهيم ناصر (هيما)، اللذان غادرا إلى السودان لاحقًا، ثم واصلا مسيرتهما إلى دول أخرى.

خلال تلك الفترة، جمعتني الأيام بصديقي أواب ماهر، الذي تنقل بين ليبيا وروسيا ومصر والسعودية قبل أن يستقر في قطر. أما علي الفكي، فاتخذ مسارًا مختلفًا، عبر من ليبيا إلى إيطاليا واستقر في فرنسا. 

كنتُ أقيم في القاهرة، وفي أحيائها الجميلة والعتيقة والشعبية التي أعشقها، وخصوصًا في وسط البلد: عابدين، السيدة زينب، والعتبة. كما أقمتُ لمدة شهر في حي المهندسين الراقي بمحافظة الجيزة. يا لها من أيام! مرّت كالخيال أحلام.

ما جعلني ألتزم جدار الصبر، وحائط التأني، وسور التريّث أكثر، هو وجود صديقي الذي أعرفه منذ السودان، ناصر صالح، المعروف بلقب (ناصر أدروب)، في القاهرة. فهو خبير بكواليس الهجرة غير الشرعية، ومن محاسن الصدف أنه دخل معي السفارة الأمريكية في اليوم نفسه، ولم يُوفَّق هو أيضًا، لأسباب خاصة.

بعدها غيّر مساره نحو عمل آخر، تعددت أسماؤه بين المندوب والسمسار والوسيط، لكن صورته عندي لم تتغير: رجل موثوق وأمين. كان له دور كبير في تسهيل رحلة هجرتي، ولا أنسى له ذلك الفضل.

ثمة أشخاص يزعمون أنهم وسطاء أو مهرّبون، يتفننون في انتقاء كلماتهم حتى يزرعوا فيك الثقة. ولكن بمجرد أن تسلمهم جزءًا من مالك أو كله، يختفون تمامًا، ولا يظل منهم إلا ذكرى مرة، وتصبح رؤيتهم حلمًا لا يتحقق إلا في الآخرة.

في منطقة العتبة بالقاهرة، ستصادف كثيرًا من السودانيين الذين يعرّفون أنفسهم كمهرّبين أو وسطاء لشخصيات كبرى تتحكم في طرق الهجرة غير الشرعية. لكن وراء هذه الصورة البراقة، تكمن حقيقة صادمة: معظمهم مجرد مدّعين ومحتالين.

إذا حاول أحدهم، مهما كانت مكانته أو سمعته، أن يقنعك برحلة على متن سفينة أو باخرة أو ناقلة تجارية، مدّعيًا أنك ستعمل ضمن طاقم الخدمة، فاعلم أنه يكذب بوقاحة. فالحقيقة أن ما ينتظرك هو مركب صيد متواضع، غالبًا قديم ومتهالك.

جميع المهربين، والمناديب، والوسطاء، يعملون تحت إمرة شخص واحد فقط، وهو مصري الجنسية، ولديه مناديب رسميون في السودان، خاصة في مدينة أم درمان، بمنطقة سوق ليبيا. كما أن له مناديب في دول أخرى، مثل ليبيا على الأغلب. هؤلاء يشكّلون مافيا كبيرة، ولا تستطيع الحكومات المحلية أن تفعل الكثير لإيقافهم، لأسبابٍ عديدة.


في الطريق إلى بلطيم بالساحل الشمالي

بعد قضائي أكثر من تسعة أشهر في القاهرة، حانت لحظة الانطلاق نحو الشمال ووداع مصر، على أمل بلوغ أوروبا. وفي صباح يوم السبت 27 يونيو 2015م، الموافق 10 رمضان 1436هـ، اتصل بي صديقي ناصر مطالبًا إياي بالاستعداد على الفور للرحلة المجهولة المعلومة، حيث كان لقاء المهاجرين مقرّرًا في مساء ذلك اليوم.

كنتُ شخصيًا مستعدًا لهذه الخطوة منذ فترة طويلة، قبل حلول شهر رمضان، واخترت هذا الشهر تحديدًا، الذي تزامن مع يوليو في ذروة الصيف، لأنه يُعَدُّ من أفضل أشهر السنة للهجرة بسبب هدوء مياه البحر.

نسبة النجاة والنجاح لا تتجاوز الثلاثين في المائة، خصوصًا في الرحلات التي تنطلق من مصر، حيث تكون عملية التنظيم أفضل والمراكب أكثر متانة.

أمّا الرحلات القادمة من ليبيا، فلا تتعدى نسبة نجاحها عشرة في المائة، على الرغم من قربها الكبير من إيطاليا ورخص تكاليفها. لذلك لا أنصح أي عاقل بالمجازفة بالذهاب إليها أو محاولة الهجرة منها أبدًا.

فإن لم يهلك المرء في الصحراء الشاسعة، فسيواجه خطر العصابات والحركات المسلحة المنفلتة، أو قسوة بعض سكان ليبيا. وإن نجا منهم، كان البحر العميق في انتظاره؛ إذ تتم الرحلة غالبًا عبر قوارب مطاطية منفوخة بالهواء، تُسمّى محليًا "البلم"، وأي ثقب صغير فيها يعني الهلاك المحقق.

تندر في ليبيا استخدام المراكب الحديدية أو مراكب الصيد في الهجرة غير الشرعية. ومع ذلك، تبقى ليبيا المعبر الرئيسي لمعظم المهاجرين القادمين من إفريقيا إلى أوروبا، وكذلك مصدر أغلب الرحلات التي تنتهي بمآسٍ في البحر.

بصراحة، تُعدّ ليبيا وجهةً مفضّلة للمهاجرين ذوي الميزانيات المحدودة جدًّا، بفضل انخفاض تكلفة الهجرة؛ إذ لا يتجاوز متوسطها خمسمائة دولار للشخص الواحد، وهو مبلغ يقل كثيرًا عن تكلفة الرحلة من مصر، التي لا تقل عن ألفي دولار في المتوسط.

قد تتفاوت هذه التكلفة حسب الظروف، لا سيما في مصر، وهي تسري على جميع الجنسيات، بمن فيهم المصريون. أما الأطفال، فيتم الاتفاق على تكلفة مخفضة لهم بالتعاون مع ذويهم.

ما يميز الهجرة عبر ليبيا هو اختصار المسافة والوقت، فسرعة الوصول إلى دول جنوب أوروبا قد تكون ميزة مغرية. فمن تلك الشواطئ، قد يجد المهاجرون أنفسهم على أرض مالطا أو إيطاليا في غضون ليلة واحدة.

على النقيض، يحتاج القادمون من مصر إلى ما لا يقل عن خمسة أيام، دون احتساب الأيام التي يقضونها عالقين في البحر بانتظار اكتمال عدد المهاجرين على متن القوارب. شخصيًا، أمضيت أحد عشر يومًا في البحر.

مَشَيْنَاهَا خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنَا   وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشَاهَا

قبل بدء الرحلة الطويلة، احرص على شراء حقيبة ظهر صغيرة أو متوسطة الحجم، وضع فيها الملابس والحبوب الطبية بعد أن تلفها جيدًا وتغلفها باللاصق العريض لحمايتها من البلل أو التلف.

لا تنسَ أيضًا شراء مياه معدنية، وشيئًا من التمر، وصناديق من البسكويت، وبعض الأغذية المجففة والمعلبات؛ لأن كمية الطعام الجيدة والمياه الصالحة للشرب غالبًا ما تنفد في مراكب الهجرة قبل الوصول إلى برّ الأمان بيوم أو أكثر.

والأهم من كل ذلك شراء سترة نجاة، خاصة لمن لا يُجيدون السباحة. أذكر جيدًا أنني اشتريت واحدة منها من شارع الجمهورية الشهير في القاهرة بسبعين جنيهًا مصريًا.

من الضروري للمهاجر أن يضع هاتفه المحمول في كيس ورقي صغير أو جراب بلاستيكي محكم، ويغلفه باللاصق بإحكام لحمايته من البلل والرطوبة، لأن الهاتف الذكي هو الوسيلة الأساسية التي يحتاجها بمجرد وصوله إلى أوروبا.

في أيامه الأولى في أوروبا، يحتاج المهاجر إلى مبلغ مالي لا يقل عن ثلاثمائة يورو، لأن التعامل سيكون شاقًا بدون مال كافٍ. كما أن تحويل العملات الأجنبية قد لا يكون سهلاً دائمًا، لذلك من الحكمة حمل اليورو نقدًا وتأمينه جيدًا.

أتذكر جيدًا أنني حولت مبلغًا يقارب الألف جنيه مصري مقابل مائة يورو من إحدى الصرافات المشهورة في ميدان لاظوغلي، لاستخدامه وصرفه لاحقًا في أوروبا.

تمكنت من تدبير هذا المبلغ بعدما فقدت جواز سفري في إحدى سفارات شرق أوروبا بالقاهرة، حيث اتفقت مع الوسيط الذي استلم جواز سفري وأضاعه على أن يعوضني بمبلغ مائة دولار.

من جانبي، أضفتُ بعض الجنيهات المصرية التي كانت معي، إذ إن قيمة اليورو أعلى من الدولار، وبذلك تمكنت من شراء تلك المائة يورو.

أما جواز السفر فلم يكن له أي فائدة في هذه الهجرة، ولن ينفعني أبدًا، فالأجدى الاستفادة منه بأي وسيلة، خصوصًا أنه لم يكن حتى باسمي.

فيما يخص المبلغ المطلوب للهجرة، عليك تسليمه نقدًا للمندوب أو المهرب أو الوسيط الذي تثق به دون تردد، وقبل أن تتحرك نحو الساحل الشمالي للبلد.

فإن لم تدفع، فلن تهاجر أبدًا، وستنتظر طويلًا، مما يسبب لك الإحباط والتأخير وربما يؤدي إلى مصير مجهول لهجرتك.

المبلغ الذي دفعته شخصيًا كان ألفين وستمائة دولار، ولا وجود لما يُسمّى بالدفع لاحقًا، أي بعد الوصول إلى أوروبا عبر طرف ثالث موثوق للجميع، لأن هذا مجرد كذب وهراء، وتتلاشى هذه الوعود عند وصولك إلى مراكز الاحتجاز (بيوت التخزين) فيما بعد.

كان من المفترض أن أغادر في الأول من رمضان مع الأصدقاء عبد الوهاب هاشم (وهبة)، الذي ذهب إلى ألمانيا أولاً ثم استقر في فرنسا قبل أن ينتقل إلى بريطانيا، والصديق معاذ صالح، الذي تنقل بين ألمانيا وفرنسا واستقر أخيرًا في بريطانيا مثل صديقنا عبد الوهاب. لكن لأسباب عديدة فضلت المغادرة في أواسط رمضان، ونهايات يونيو أو بدايات يوليو.

قبل إفطار ذلك اليوم (يوم التجميع وليس يوم الهجرة) بساعات قليلة، خرجت من غرفتي الصغيرة الواقعة في الطابق الأرضي من تلك العمارة الضخمة الكائنة في منطقة سعد زغلول التابعة لحي السيدة زينب.

في تلك الفترة، كان يشاركني السكن اثنان من الأقارب: ابن خالتي المُهَلَّب حسن عثمان، الذي كان أصدقاؤه في القاهرة ينادونه بـ (سكرتير)، وابن عمي مصعب صلاح (دنقل). وقد اختارا بعد حين مغادرة مصر متجهَين إلى بلدان مختلفة.

بعد تحويل مبلغ المائة يورو، توجهت مباشرة إلى ميدان محمد فريد بالقرب من العتبة، حيث أوصلني صديقي أواب ماهر. من هناك، استأجرت سيارة أجرة إلى حي عين شمس في شمال القاهرة بتكلفة حوالي ثلاثين جنيهًا، وذلك لتجنب إضاعة الوقت في إجراءات تفتيش الحقائب بمحطات المترو؛ بسبب حملي سترة النجاة.

وصلتُ إلى منطقة عين شمس قبل أذان المغرب بنحو ساعة، إلى نفس العنوان الذي أرسله لي صديقي ناصر أدروب. فعادةً يقوم المناديب بتأجير الشقق السكنية في الأحياء الشعبية بالقاهرة والإسكندرية لتجميع المهاجرين، أو لاستقبال القادمين من السودان أو من دول أخرى ممن لا يملكون سكنًا في مصر، وتُعرف هذه الأماكن باسم "شقق التخزين" أو "بيوت التخزين".

يتجمع المهاجرون غير الشرعيين عادةً في أحياء مثل عين شمس، وأرض اللواء، وفيصل في القاهرة الكبرى. وكان ناصر مسؤولًا عن إحدى الشقق المخصصة لهم في حي عين شمس.

لم أكن أعرف أحدًا من أفراد الرحلة قبل مغادرتي مسكني في السيدة زينب، لأن أصدقائي الذين اتفقتُ معهم على الهجرة سابقًا مرّوا بظروف مختلفة، فلم يكملوا الرحلة معي حتى النهاية، وكانوا كُثرًا.

وبما أننا لا نعلم ما قد تجود به الأيام أو تقسو به علينا، فقد التقيتُ وتعرّفتُ على شباب لا يوصفون إلا بأنهم رفقاء حقيقيون. وكان أول من تعرّفتُ عليه داخل شقة التخزين صديقي لاحقًا عمر آدم حسن، وكان نعم الرفيق والصديق.

حين سمعتُ حكايته ومحاولاته المتكررة للسفر، وما تعرّض له من قبل من سجنٍ وترحيل بسبب الهجرة غير الشرعية، وإصراره على الوصول إلى أوروبا، ولا سيما بريطانيا، قلتُ في قرارة نفسي: هذا هو الرفيق قبل الطريق. والحمد لله، فقد حقق حلمه وأمنيته فيما بعد، وهو الآن في بريطانيا.

بعد الإفطار مع مجموعة من الشباب في الشقة المخصَّصة للتجميع، رنّ هاتف صديقنا ناصر، إذ طلب منه رؤساء العمل أن يصحبنا فورًا إلى ميدان رمسيس في وسط البلد، بأسرع وقت ممكن، وتحديدًا بالقرب من مسجد الفتح، حيث مكان تجميع المهاجرين هناك.

قبل الوصول إلى محطة مترو عين شمس القريبة من بيت التخزين، وبرغم تردّدي في استخدام المترو بسبب عمليات التفتيش في ذلك اليوم تحديدًا، تعرّفتُ على بعض المهاجرين من الشقق المجاورة، منهم الرفيق عبد الرحمن الذي يقيم الآن في فرنسا.

والذي بدوره أصرَّ علينا وألحَّ على أن نذهب بالمترو، نظرًا لارتفاع أجرة سيارة الأجرة من عين شمس إلى وسط البلد، مؤكدًا لنا أنه لم يتعرض للتفتيش من قبل، رغم حمله حقائب مختلفة.

ترددت لأنني لم أكن أملك جواز سفر، ولأن حقيبتي كانت تحوي سترة نجاة، وهو ما قد يكشف نيتي في الهجرة إذا اكتشفها رجال الأمن. وأي استجواب حينها كان سيعني ضياع الرحلة، وربما سجني وترحيلي إلى السودان، وهو أسوأ ما قد يحدث.

بعد جدال داخلي، استسلمتُ ووافقتُ على مضض، لا لأني اقتنعت، بل لأربح بعض الوقت فقط، وشعوري بالقلق لم يفارقني. كان من حسن طالعنا أن لا يتم تفتيشنا في تلك اللحظة، لنصل بسلام إلى محطة رمسيس قبيل أذان العشاء.

في الشارع الخلفي المجاور لمسجد الفتح، رأيت حوالي ثلاث عربات تقريبًا متراصة ومصفوفة، جميعها من نوع الحافلات الصغيرة (ميكروباص)، مكتملة ومكتظة بالمهاجرين. كل عربة بها نحو عشرين مهاجرًا، رغم أنها مُخصصة لحمل خمسة عشر فردًا فقط لصغر حجمها!

كانت هناك حركة مستمرة ونشطة من قِبل مناديب آخرين سبق أن رأيتهم، حيث يصطحب كل منهم بعض المهاجرين ويزوّدهم بالإرشادات والنصائح قبل التحرك.

تقريبًا كل من يعمل هناك تحت قيادة شخص أو اثنين مصريي الجنسية، ويعرفون بأسماء حركية غالبًا غير حقيقية، مثل أبو خالد، وأبو أحمد، وأبو محمد.

بعد دقائق معدودة، تحركت العربات الثلاث نحو الشمال، متجهة صوب محافظات ومدن وقرى البحر الأبيض المتوسط. لكن قبل ذلك، لا بد من المرور عبر بوابات ومداخل بعض محافظات الدلتا (الوجه البحري).

كنا نعبر ونمر بعدة محافظات ومدن ومراكز وقرى ونجوع ومزارع كبيرة ومساحات خضراء. أما البوابات الرئيسية على الطريق السريع نحو الشمال، فكانت تقع عند مداخل المحافظات مباشرة.

فور مغادرتك القاهرة باتجاه الشمال، ستجد نفسك في محافظة القليوبية، التي لا تفصلها عن العاصمة أي بوابات ملحوظة. ويعود السبب في ذلك إلى أن الأحياء الشمالية من القاهرة، مثل المرج وعزبة النخل، تتداخل وتتصل بشكل طبيعي مع حدود القليوبية، لتشكل امتدادًا جغرافيًا للقاهرة الكبرى

لذلك، كانت أولى البوابات هي بوابة محافظة المحلة الكبرى، حيث مرت العربات بكل سهولة وكأن شيئًا لم يكن. وذلك لأن بعض أو معظم أفراد الأمن (ضباط، صف ضباط، جنود) كانوا على معرفة تامة بالعربات التي ستمر عليهم من طرف المهربين، مما يعني أنهم مرتبطون بذلك ويستفيدون ماديًا من كل تلك التسهيلات الخطرة.

لم يُبدِ السائق أية مخاوف، ولم يكن متوترًا أو قلقًا، فقد تم التواصل بينهم بإشارات معينة. كنت جالسًا في المقعد الأمامي للحافلة الصغيرة بالقرب من السائق، وبجانبي رفيقي عمر.

تكرر المشهد مرة أخرى عند مرورنا بمحافظة كفر الشيخ، وكان الوقت متأخراً حين وصلنا إليها، إذ اقتربنا من منتصف الليل. كانت الحافلات تسير نحو قرية بلطيم الساحلية، الواقعة في محافظة كفر الشيخ نفسها، والتي تبعد قليلاً عن محافظة ومدينة الإسكندرية من جهة الشرق. بالقرب منها تقع بحيرة البرلس، وعلى جنوبها بقليل تقع بلدة الحامول، وهي من قرى التهريب المشهورة كذلك.

من مدن التهريب المشهورة مدينة الإسكندرية نفسها، حيث تتم عمليات التهريب على شواطئها المعروفة وعلى مرأى ومسمع من السكان. كما توجد مدن تهريب أخرى مثل رشيد ودمياط والمنصورة ومرسى مطروح والسلوم، وغيرها من مدن الساحل الشمالي لمصر.

قبل أن نغادر ميدان رمسيس شمالًا، أوعدونا بأننا سنتحرك على مركبة التهريب فور وصولنا إلى بلطيم مباشرة. وعندما اقتربنا من القرية بعد عدة كيلومترات، نُزّلنا في إحدى المزارع الكبيرة بعد اتصال تم بين السائقين والمهربين والمتواجدين هناك.

وجدنا ذلك فرصةً ذهبية لا تعوض؛ فشرب بعضنا الماء المتوفر، وقضى آخرون حاجتهم بسبب طول المسافة، وأُمرنا بالصمت لتجنب لفت الأنظار.

أكثر ما يشغل عقلك ويشد انتباهك هو أنك لا تهاجر فقط مع شباب مثلك، بل هناك أطفال ونساء وكبار سن من مختلف الجنسيات العربية والإفريقية وحتى الآسيوية.

بعد دقائق معدودة، تم إدخالنا وحشرنا جميعًا بدون فرز في عربة مخصصة لنقل الرمال والطوب ومواد البناء (قلابات). ومن هنا بدأت الصعوبات وقسوة السفر، والمعاناة والصبر وقوة التحمل، فكان لنا ذلك.

ثم غُطينا بمشمع ضخم ونحن متكدسون مع بعضنا البعض، فلا مجال لمد أرجلنا. مع ضيق المكان، زاد هذا المشمع الثقيل من سخونة الأجواء وصعوبتها.

طلب منا المهربون الالتزام بالصمت وعدم الكلام لكي لا يُكشف أمرنا. كلهم مسلحون بطبيعة الحال، وحياتهم على كف عفريت، وذلك بسبب عدم شرعية وقانونية نشاطهم.

التزمنا الهدوء وآثرنا الصمت، إلا من بعض الهمهمات والهمسات التي صدرت عن الرفيق عبد الله عثمان (شارون)، وهو الآن في فرنسا. وبالقرب مني كان رفيقي الآخر محمد خالد (سمارة)، وهو الآن في بريطانيا، حيث تعرفت عليهما فيما بعد أكثر وأكثر.

بعد برهة من الزمن، أدار السائق محرك تلك العربة المشؤومة نحو بيت التخزين البائس، وليس نحو البحر كما كان مقرراً من قبل، إذ حدثت بعض الظروف التي حالت دون ركوبنا أمواج المتوسط في تلك الليلة.

واصلنا مسيرنا في الطرقات الوعرة تارة، وفي الطرقات المعبدة تارة أخرى، حتى وصلنا إلى بيت التخزين في قرية بلطيم الساحلية.

تم إنزالنا جميعاً بسرعة فائقة من العربة، ثم أدخلونا ذلك البيت البائس بسرعة أكبر، فهؤلاء الناس يعرفون عملهم جيداً.


داخل قرية بلطيم

دخلنا جميعاً ذلك المنزل القروي بقرية بلطيم في ساعة متأخرة جداً من الليل. كان المنزل يقع في طرف البلدة، وتجاوره مزرعة كبيرة، وعلى الجوانب الأخرى والقريبة توجد أحياء سكنية وشوارع ترابية. وما إن دخلنا البيت حتى فوجئنا بمهاجرين آخرين كانوا قد طال بهم الأمد قليلاً.

سخونة الأجواء والرطوبة العالية كانتا كفيلتين بقهرنا، بالتزامن مع ضيق ذلك المنزل الريفي المزدحم بأكثر من ستين مهاجرًا ومهاجرة، رغم أنه لا يتسع لأكثر من ثلاثين شخصًا تقريبًا.

لكنني تمسّكت بالأمل، على يقين بأن هذه المعاناة ستتحول في يوم ما إلى مجرد ذكرى من الماضي، نتسامر عنها ونروي تفاصيلها. فما عشناه هناك يفوق كل تصور أو منطق.

البيت الريفي لم يكن كبيرًا؛ ثلاث غرف وصالة ومطبخ وحمام واحد للجميع، غير أن رائحته الكريهة انتشرت في المكان بأكمله. أما النساء والأطفال فقد جرى جمعهم في غرفة خاصة بعيدًا عن الرجال.

ورغم ذلك، وجد بعض الشباب مساحة ضيقة للنوم والاسترخاء من شدة التعب، فالمساحات كانت معدومة تقريباً، والكل يحمل حقيبة ظهر معه.

بعد مرور ساعة كاملة على وصولنا، وزعوا علينا وجبة العشاء، وكانت تتكون من قطعة خبز يابسة مسحت عليها قليلاً من الجبن.

أحيانًا تُحشى ببعض حبات الفول، أو توضع عليها شرائح من اللحم المبرد، أو قطعة من الحلاوة الطحينية. كما تُوزَّع كميات قليلة من المياه، حتى أثناء الإفطار. وذلك كل ما كان يتوفر لنا يوميًا.

تخيلوا معي، بعد كل تلك المسافات التي قطعناها في عزّ الصيف، ونحن ننتظر بقايا أيام رمضان، ووجباتنا كما ذكرت، مع كميات قليلة جداً من المياه!

لكن لماذا الغضب والاستغراب؟ فقد كنت أعلم بكل هذا مسبقاً حرفياً، وكان عليّ أن أتحلّى بالصبر وأتكيّف مع الوضع الراهن مهما كلف الأمر.

نمنا فيما بعد متلاصقين، وتداخلت أنفاسنا مع بعضها، وانتشرت روائح أجسادنا، وأفواهنا، وملابسنا، وأحذيتنا في أرجاء المكان. الكلام والحركة واستخدام الجوال ممنوع، بل ممنوع كل شيء، وأي شيء.

النوم شبه مستحيل في ظل تلك الظروف القاسية؛ فالمهاجرون ينامون متلاصقين، لا يفصل بينهم إلا ميليمترات قليلة. وأي خطأ غير مقصود، كتحريك القدم ولمس أحدهم، كفيل بأن يجعلك تسمع ألفاظًا لا تُنسى. فالمساحة لم تتسع لأي خطأ أو تجاوز.

سوء الحظ رافقني حين وجدت نفسي نائمًا قرب دورة المياه تلك. يحيط بي مهاجرون من شتى الجنسيات. المكان خانق وبائس، والنوم فيه رفاهية لا تدوم إلا لدقائق معدودة، تُقطعها حركة دخول وخروج مستمرة إلى دورة المياه.

صباح الأحد 28 يونيو 2015م، الموافق 11 رمضان 1436هـ، وجدت نفسي صائمًا مع جماعة من الأشخاص، إذ لا جدوى من الإفطار في مثل تلك الظروف. غير أن دورة المياه المشتركة، بما تفوح به من روائح خانقة، تحولت إلى عبء أثقل كاهل الجميع رجالًا ونساءً.

كان يحيط بنا ثلاثة رجال مسلحين، يتبعون لشبكة المهربين، ويتناوبون على مراقبتنا على مدار الساعة. كانت مهمتهم الرئيسية هي توزيع الطعام والشراب، وإدارة تلك البيوت الكئيبة، بالإضافة إلى فرض النظام وإسكات أي شخص يثير الفوضى أو يشكل خطرًا عليهم.

أتذكر جيدًا أنه لطلب شيء من الخارج، كالسجائر أو رصيد الهاتف أو الطعام أو الشراب، يجب دفع المبلغ مقدمًا وتسجيل الاسم في سجل الطلبات. بعد ذلك، يتوجه مندوب المهربين لجلب الطلبات مباشرة بعد الإفطار من المدينة أو من منطقة قريبة من بلطيم.

بعد ساعات طويلة، كان المهرب أحمد يفتح نافذة واحدة لنا، مما يسمح للهواء الريفي المنعش بالدخول إلى البيت المكتظ. لم يكن الاستحمام واردًا، فلم يكن هناك حمام، بل مجرد دورة مياه.

المهرّبون عادةً يخشون بلطجة بعض السكان المحليين أو مداهمات الشرطة في أيّة لحظة، على الرغم من معرفتهم بمعظم أهالي القرى التي توجد فيها بيوت التخزين.

لكن لا أمان ولا ضمان ولا استمرارية لمثل هذه الأنشطة الخطرة والأعمال غير القانونية، كما أنّ تصفية الحسابات بين المهرّبين تأخذ مجراها أيضًا.

حدثت حوادث كثيرة وخطيرة من قبل، مثل مهاجمة المهاجرين وسلب ونهب ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه. وسمعنا من بعض المهاجرين حكايات كثيرة ومواقف صعبة وقاسية جدًا، عن تعرّضهم للنهب والسلب والوعيد، بل وللضرب والسجن أحيانًا، سواء من الشرطة أو البلطجية أو حتى من أهالي القرى.

وبينما نحن على تلك الحال، يبشّروننا بأننا سنبحر في اليوم نفسه، وأقصد هنا اليوم التالي لدخولنا بيت التخزين، الأمر الذي يزيد من معنوياتنا. وخلال ذلك تبدأ ما يمكن تسميته "لعبة الاستلام والاستسلام والتسليم": استلام المبالغ، واستسلام المهاجر للأمر الواقع وقبول شروطهم، ثم تسليم ما تبقى من الأموال نقدًا.

فمَن لم يُسلِّم ما تبقّى من أمواله، سواء كانت عند الطرف الثالث، أو الوسيط، أو السمسار الصغير التابع للمندوب الرسمي الذي تفاوض معه من قبل، فلن يكون ضمن أفراد الرحلة الحالية، بل سيُؤجَّل سفره إلى رحلات لاحقة، إلى أن يوافق على دفع ما تبقى من المبلغ المطلوب.

وهنا تحديداً تأتي لحظة الاستسلام من قِبل المهاجر؛ فلا يعود قادراً على الانتظار أكثر من ذلك، وليكن ما يكون. وبالفعل، أُعيد بعضهم إلى القاهرة لعدم دفع بقية المبلغ.

بهذه الطريقة تنتفي وتختفي فكرة "الطرف الثالث" تمامًا، مهما كان شأنك أو شأنه. لذلك لا أنصح أحدًا بالاعتماد على مقولة الطرف الثالث أو أي طرف آخر، ففي النهاية ستخضع للأمر الواقع بنسبة كبيرة.

اقترب موعد صلاة المغرب والمعنويات مرتفعة، وطموحاتنا وصلت إلى أقصاها، إذ اعتقدنا أننا سنبحر في ذلك اليوم كما وعدونا. بدأت الاستعدادات لتجهيز الإفطار وتوزيع الأرغفة اليابسة والمياه القليلة، ولعلها العشاء الأخير على برّ مصر.

بعد الإفطار في ذلك اليوم، سمعنا خبرًا غير سارٍ من أحد أفراد التهريب، مفاده أن الإبحار اليوم مستحيل وغير ممكن بسبب سوء الأوضاع الأمنية والطبيعية، لذا علينا انتظار اليوم التالي أو الأيام اللاحقة. وانتظرنا كالعادة، فما باليد حيلة.

في ليلة نفس اليوم، وعلى حسب ما أذكر، أضيفت إلينا مجموعة أخرى، كما نُقلت النساء والأطفال إلى بيت آخر، حيث امتلأ المنزل عن بكرة أبيه، ولم يكن هناك مجال حتى للجلوس، دعك من التمدد أو النوم، وكان عددنا قرابة المائة.

ما أثار حيرتي أن معظم المهاجرين سبق أن اعتُقلوا وأُعيدوا من البحر نفسه أكثر من مرة، بل كان بيننا شاب صغير من الجنسية الإريترية حُجز داخل مركب في عرض البحر مدة ثمانية عشر يوماً، ثم أُعيدوا جميعاً إلى مصر.

أُعيد أيضاً بعض السودانيين إلى بلادهم بعد حبس دام أياماً أو أسابيع أو شهوراً، وقد أخبرني بعضهم أن المستبعدين يعودون إلى مصر مرة أخرى عبر معبر شلاتين الحدودي بين مصر والسودان بطريقة غير شرعية، لأن جواز سفرهم مُنع لفترة طويلة من قبل السلطات المصرية ووُضع عليه ختم يمنعهم من دخول الأراضي المصرية قبل انتهاء فترة الحظر.

بمجرد العودة إلى مصر، تنضم إلى الرحلات التالية، ولا يطالبك المهربون بالدفع مرة أخرى إذا سبق أن دفعت، فمعرفتهم باسمك وشخصيتك تمنحك هذا الحق لديهم.

الشخص الحائز على بطاقة اللاجئ، أي الكرت الأصفر الصادر عن الأمم المتحدة لشؤون الهجرة، يحظى بحماية نسبية، ويُعاد إلى القاهرة إذا تم الإمساك به من قِبل السلطات المحلية.

لاحظت أن بعض الشباب يحملون هذه البطاقة دائمًا، ففي حال إلقاء القبض عليهم، يتواصلون مع مكتب شؤون اللاجئين، وبعد الإفراج عنهم يواصلون مسيرتهم نحو الهجرة. أما من يُسجن في مصر، فحال السجون المصرية لا يسر لا عدوًا ولا صديقًا.

في دروب الهجرة غير الشرعية، لا تسلّم زمام مصيرك لمن سبقك أو يمشي إلى جانبك أو يأتي بعدك، فكل إنسان يسير على خطه المرسوم، بحكايته الخاصة وحظه المكتوب.

وما عليك إلا المثابرة والاجتهاد، وتدبير نفسك جيدًا، وتوقع الأسوأ قبل الأفضل. عليك أن تصاحب الصبر الطويل، وتوادده بصدق وتفان.

رويدًا رويدًا بدأنا نتعرف على بعضنا البعض، وممن عرفتهم شباب يُعرفون بلقب (أولاد السلك)، ويقصد بذلك الشباب الذين كانوا في إسرائيل سابقًا لأسباب وظروف قاهرة أقوى منهم بكثير.

دخلوا هناك عن طريق شبه جزيرة سيناء، أي أنهم قطعوا مسافات طويلة برفقة المهربين من بدو سيناء ودفعوا الكثير من الأموال، حيث قاموا بتقطيع واجتياز الأسلاك الشائكة (دلالة على العبور) الفاصلة بين مصر وإسرائيل، لذا التَصِق اللقب بهم.

معظمنا كنا من السودان وإريتريا والصومال وإثيوبيا (الثلاث جنسيات هذه هم ملوك وأساتذة التهريب منذ سنوات طويلة)، وكان معنا أيضًا بعض الأفراد من دولة جزر القمر، علماً بأن هناك بيوتًا أخرى للتخزين بها مهاجرون أيضاً، سنلتقي بهم في البحر المالح لاحقاً.

مغامرة الحياة والموت

غادرنا بلطيم باتجاه ساحل البحر الأبيض المتوسط مساء الإثنين، 29 يونيو 2015م، الموافق 12 رمضان 1436هـ. لم تكن تلك المغادرة سهلة أو عادية، بل كانت حدثًا يستحق أن يخرج على يد أشهر مخرجي هوليوود وبوليوود، وأن يكتبه أعظم كتاب السيناريو.

فبعد مرور صباح ونهار وعصر ذلك اليوم الذي لن أنساه أبداً، ومع آذان المغرب بالتزامن مع الإفطار، أمرنا المهربون بسرعة التحرك نحو تلك العربات القريبة من المنزل الريفي التي نعرفها جيداً، فهي نفس العربات التي تحمل مواد البناء، خاصة الطوب والرمل والجير (قلابات).

فتح أحد المسؤولين باب البيت الريفي، وقبل أن نفطر أو نتناول شيئاً ما، صرخ في وجوهنا أن نسرع الخطى ونسابق الزمن، وكان له ولنا ذلك. ففي أقل من خمس دقائق لم يكن هناك أحد في المنزل الريفي.

حُشر الجميع في تلك العربات الثلاث كما تُصف كراتين الفواكه وأكياس الخضار، ثم أعادوا إلقاء الغطاء الثقيل فوقنا، حتى كدنا نموت اختناقًا داخلها، قبل أن تتحرك بنا نحو ساحل البحر.

بعد دقائق ليست بالقليلة، توقفت العربة تماماً، وتسلل الشك إلينا، فحللنا الموقف بأن الشرطة المصرية ربما علمت بأمرنا. لكن لحسن الحظ، واصلت العربة سيرها مجدداً بحذر تام قرابة ساعة، ثم توقفنا في منطقة شبه زراعية خالية من البيوت، حيث انتظرنا تعليمات كبار المهربين للتحرك مجدداً.

كدنا نفقد حياتنا، ليس فقط بسبب ضيق المكان، بل أيضًا بسبب المشمع الذي كان يغطينا. أحدثت ثقبًا صغيرًا لأسمح بدخول بعض الهواء، وكان كل ما أتمناه في تلك اللحظة أن أتنفس قليلًا من الهواء النقي. وفجأة، رفع المدعو أحمد المشمع عنا لمدة خمس دقائق تقريبًا، وكان الفرق هائلًا.

كان الجو رائعًا بطبيعة الحال بعد رفع الغطاء، فنحن في وقت صلاة العشاء والتراويح وبالقرب من البحر، ولكن فرحتنا لم تدم طويلاً، فبعد أن سمعوا ثرثرتنا، أعادوا الغطاء كما كان، ورجعنا إلى مربع الموت من جديد.

بعد انتظار دام قرابة الساعة، أخيرًا جاءت الأوامر من الكبار بالإسراع بنا نحو شواطئ البحر المتوسط، فكل المهربين يعملون بخطط معينة ومدروسة، ويمتلكون أجهزة الثريا للتواصل مع الجميع، برًا وبحرًا.

لا مجال للتحرك أو العمل إلا بعد الحصول على إذن وتوجيهات من هؤلاء الرؤساء. يتم التنسيق مع بعض ضباط وعساكر خفر السواحل في ساعات محددة، وهذه العملية تتم مقابل رشاوى كبيرة، وهو ما يؤكد أن هذه الشبكات تعمل على نطاق واسع.

اقتربنا من رمال شواطئ البحر المتوسط، وازداد إصراري على مواصلة المشوار حتى النهاية، فإما الفناء في البحر المالح أو الوصول إلى بر الأمان في قارة أوروبا، فالحياة والمستقبل أمامي، بينما الشقاء وخيبة الأمل والتعاسة خلفي.

تم إنزالنا من العربة فوراً وبسرعة وخفة، ولم نعرف بعد مصير العربات الأخرى، فقد افترقنا في الطرقات والمسالك، ثم سرنا بصعوبة بالغة على شواطئ رملية لمسافة ثلاثمائة متر وأكثر.

الرمال تلمع تحت ضوء القمر، ناعمة وبيضاء بشكل ساحر، لكن السير عليها يرهقنا، خصوصًا ونحن عطشى في عز شهر رمضان، نحمل أمتعتنا على ظهورنا. أقدامنا تغوص أحيانًا في الرمال كأنها تبتلعنا برفق.

سرنا حسب تعليمات المهربين، ونحن وراء بعضنا البعض، نسمع كلامهم ونطبقه حرفياً حتى لا يُكتشف أمرنا من قبل خفر السواحل المصرية. نمشي قليلاً، ثم نقف قليلاً، ثم نجثو على ركبنا قليلاً، وبالكاد نزحف بين الكثبان الرملية، وهكذا حتى نهاية المطاف.

كان همّي الأول والأخير في تلك اللحظات الصعبة، الحاسمة، والحرجة، هو إخراج سترة النجاة من حقيبتي وارتداؤها فوراً، لأننا بعد قليل سندخل بحرًا مالحًا متلاطم الأمواج مع أجسامنا وحقائبنا. ولو لم أتمكن من ارتدائها حينها، فحتماً كنت سأعود مع نفس العربة، وأجرب المحاولة في يوم آخر مهما كلفني الأمر.

لحسن حظي هذه المرة أيضًا، وجدت فرصة ذهبية لبضع دقائق، وذلك عندما طلبوا منا التوقف قليلاً، إذ خُيل لهم أنهم رأوا جنود خفر السواحل وأمرونا بذلك. أسرعت في إخراج سترة النجاة وارتدائها جيدًا، وحينها فقط كنت مطمئنًا ومستعدًا للدخول إلى المياه المالحة.

المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى المياه هي تخطي ربوة رملية كبيرة تفصلنا عن الشاطئ، ثم الدخول إلى المياه بكامل ملابسنا وحقائبنا، والسباحة لمسافة ثلاثين مترًا أو أكثر حتى نصل إلى الزورق السريع.

سارت الأمور على نحو جيد، لكن فجأةً لمحتُ أن أحد المهاجرين قد توقف مستسلماً وبلا حراكٍ عند أسفل الربوة الرملية، بينما كنتُ في الأعلى والبحر أسفل مني من الناحية الأخرى، ورأيتُ بقية المهاجرين يخوضون المياه مسرعين نحو ذلك الزورق السريع سباحةً.

نزلتُ من قمة تلك الربوة الرملية على الفور، وبدأت أسحبه خلفي ممسكًا بيده لمسافة ليست بالقصيرة، رغم الإرهاق الذي كان قد نال مني. في بعض الأحيان، كنت أدفعه أمامي بكل ما في وسعي، حتى نجحنا معًا في تسلق التل الرملي، ووصلنا أخيرًا إلى الماء.

شكرني على المساعدة وقال إنه يعاني من ضيق التنفس، ولم يكن ليستطيع مواصلة الرحلة بدوني. رددت عليه: "لا داعي للشكر، لقد فعلت ما عليّ فعله." كان هذا رفيقي علاء الدين حسن من بورتسودان، وهو يقيم الآن في السويد.

عندما تصل إلى قناعة تامة وحتمية بأن الحياة المثالية تنتظرك في الجانب الآخر البعيد، والتعاسة والشقاء في الجانب القريب منك، حينها عليك التوكل بالله فقط ونسيان كل ما يتعلق بك في هذه الحياة لتصل إلى الشاطئ الآخر والبعيد. انسَ وتناسى تمامًا وجودك في هذه الحياة عندما يصبح الموت والهلاك على بُعد سنتيمترات قليلة منك.

في تلك اللحظة، لم يعد هناك أي شيء يهمنا مما مرّ بنا في حياتنا. فمع دخولنا الماء، والأمواج تجذبنا إلى الداخل ثم تلقي بنا إلى الخارج، لم تعد الأحلام والذكريات ذات قيمة. كل ما في الوجود اختُزل في تلك المسافة القصيرة التي كانت تفصل بيننا وبين الفناء.

كانت المعركة نفسية ومعنوية قبل أن تكون بدنية، واستمرت لنحو عشر دقائق تقريبًا. دخلنا المياه بكامل ملابسنا وحقائبنا التي نحملها على ظهورنا، لأن ذلك الزورق السريع لا يرسو على الشاطئ الرملي، بل يرسو فقط على مرافئ مخصصة له.

كنا في موقع التهريب على شواطئ بعيدة ومهجورة وقاسية. وقرب الزورق أكثر من الساحل يعني أن محركه سيُغطى بالطين والرمل، مما يؤدي إلى تعطله فورًا. لذلك، من الطبيعي أن يتوقف على بعد ثلاثين مترًا أو أكثر من الشاطئ، ويجب علينا الوصول إليه سباحةً، وبسرعة.

تجربتي الأولى مع المياه المالحة لم تكن مثالية، حيث ابتلعتُ كمية منها عن غير قصد. ومع ذلك، وبفضل سترة النجاة، تمكنتُ من السباحة ببراعة حتى وصلتُ إلى الجهة اليسرى من الزورق.

فمن يَسهو أو يتغافل ويسبح من الخلف تجاه المحرك، فإن لم يمت غرقًا، فسيلقى حتفه ذبحًا وتقطيعًا بواسطة شفرات مراوح المحرك الحادة.

لحسن حظنا جميعاً، تم رفع الجميع إلى سطح الزورق، حيث كان البحارة يسحبوننا واحدًا تلو الآخر عندما نقترب منهم. وصعد معظمنا بحقائبنا، بينما ترك قلة قليلة حقائبهم في البحر هلعًا وخوفًا.

لاحظت أن الزورق يحتوي على صندوق كبير في الأسفل (مخزن)، بالإضافة إلى فتحة في المنتصف (مدخل) يمكن رؤيتها من سطح الزورق المستوي.

تم تخزين جميع أفراد العربة الأولى هناك، وكانوا بالكاد يتنفسون، بينما بقينا نحن على السطح، وهذا يعني أنهم كانوا في انتظارنا.

وجدت رفيقي علاء الدين بالقرب مني، فقال لي إنه لا يستطيع الركض كثيراً لكنه بارع في السباحة، بينما أنا العكس. ثم أضاف قائلاً: "لو أخبرتني من قبل أنك لا تجيد السباحة، لما احتجت إلى هذه السترة، فقد كنت لأساعدك كما فعلت معي". إنها الحياة، حيث يختلف الناس في أشياء كثيرة، والإنسان يفقد شيئاً ليكسب شيئاً آخر.

انطلق الزورق السريع والصغير بسرعة جنونية، أشبه بتلك التي نراها في الأفلام، نحو مركبة صيد خشبية كانت تنتظرنا على بعد بضعة أميال بحرية في اتجاه الشمال.

في هذه الأوقات العصيبة، يسعى كثير من البحارة إلى استغلال المهاجرين وخداعهم، ويطلبون منهم ترك هواتفهم وأموالهم معهم، متعهدين بإرجاعها فور وصولهم إلى المركبة التالية.

لكن هيهات! لا يمكن أن تلتقي بهؤلاء البحارة مرة أخرى، ولا حتى في أحلامك. للأسف، بعض البسطاء يصدقون وعودهم فيخسرون هواتفهم وأموالهم وأغراضهم بسهولة.

عندما كنا على متن الزورق السريع، أدركنا أننا ما زلنا في بداية رحلتنا الطويلة والشاقة. وبعد دقائق قليلة، وصلنا إلى مركبة صيد خشبية صغيرة وتوقفنا بجانبها.

إحدى أصعب مواقف الهجرة غير الشرعية عبر البحار، والتي تحدث فيها مآسي لا حصر لها، هي عملية "التحويل"؛ أي نقل المهاجرين من مركبة إلى أخرى.

حيث تقترب المركبتان كثيراً من بعضهما البعض إلى حد التلاصق والتصادم، ويقف بعض الأشخاص على حافة المركبتين لمساعدة المهاجرين في هذه العملية.

أثناء القفز بين المراكب، وبسبب الخوف والهلع، قد تسقط في مياه البحر المالحة وتصبح فريسة للأسماك والكائنات البحرية، أو ربما تصاب بجروح مختلفة. لكن غالبية المهاجرين ينجون من السقوط ويصلون بأمان إلى المركبة التالية.

بعد وقت ليس بالقليل، انتقلنا جميعًا بنجاح إلى مركبة الصيد الخشبية تلك، وكان عددنا يقترب من المائة، إذ جُمّع تقريبًا كل من تواجد في بيت التخزين ببلطيم.

مركبة الصيد الخشبية هذه كانت صغيرة الحجم، تحتوي على سطح ضيق مغطى بسقف خشبي بسيط يحمي من أشعة الشمس الحارقة. في مقدمتها، توجد غرفة صغيرة للقيادة، حيث يجلس القائد وسط ضجيج المحرك وضوضاء البحر.

لفت انتباهي وجود مخزن سفلي واسع في منتصف المركبة، خُصص لتجميع صيدهم من الأسماك، وكانت ضوضاء المحركات الضخمة تهدر بجانبه بصوت عالٍ. أما على أطراف المركبة، فكانت تتدلى حبال سميكة وشباك صيد متشابكة.

أما نحن، المهاجرون، فكنّا متكدسين في أسفل المركبة الضيقة، محملين بحقائبنا وأثقالنا، وأجسامنا منهكة من التعب والإرهاق، لكن أعيننا كانت تفيض بالأمل والرهبة معًا. كانت نظراتنا تحمل مزيجًا من القلق تجاه المجهول، والتطلع الحذر نحو الحلم البعيد بالوصول إلى بر الأمان.

البعض كان يحاول استشفاف مستقبل مجهول، والآخرون أغلقوا أعينهم لحظات استراحة قصيرة، لكن الجميع كان يشعر بثقل الرحلة على الجسد والروح. ومع ذلك، لم يفقد أحدنا إصراره، فكان الخوف من المجهول لا يعلو على الأمل الذي نحمله معنا.

بعد أن حُشرنا في الأسفل داخل صناديق وأحواض الأسماك قرب المحرك الكبير، كنا جميعًا مبتلين والبرد قد تمكن منا جيدًا، بمساعدة رفيقه الإرهاق. وبعدها بدأت معركتنا التالية مع دوار البحر الذي لا يرحم أحدًا، مع تحرك المركبة.

كنتُ أواجه صعوبة كبيرة بسبب آثار المياه المالحة التي ابتلعتها سابقًا، بالإضافة إلى معاناتي الشديدة من دوار البحر. بعد دقائق، بدأنا جميعًا في التقيؤ، وأصبح الجو داخل المركبة خانقًا للغاية. سيطر الإرهاق على الجميع لدرجة أنهم فقدوا القدرة على الكلام أو حتى على الحركة.

بخبرتهم الواسعة، أعد البحارة إناءً كبيرًا مربوطًا بحبل قوي من الأعلى، ليُستخدم طوال الليل. كان الإناء يُمرر بيننا باستمرار، حيث تقيأ البعض فوق الآخرين دون تحكم أو قصد.

بدأت الأمواج تلعب دورها المرعب، واشتد ضيق المكان بنا، فنام بعضنا فوق بعض حتى بدايات اليوم التالي، الثلاثاء 30 يونيو 2015م، الموافق 13 رمضان 1436هـ، فيما استمر عدوّنا اللدود، دوار البحر، في ملاحقتنا.

أعتقدنا جميعًا أن هذه المركبة ستبحر بنا نحو إيطاليا، لكنها لم تكن كذلك تمامًا، فقد أوصلتنا فقط إلى مركبة حديدية أخرى بعد عدة ساعات من التحرك، وكان ذلك قبل الوصول إلى المياه الدولية، حيث ما زلنا داخل المياه الإقليمية لمصر.

المياه الدولية تُعتبر منطقة محايدة، حيث لا يُسمح لأي قوات بحرية بالتواجد فيها، مما يجعل الوصول إليها يعني الخلو من أي تهديد عسكري. على عكس المياه الإقليمية للدولة التي تسمح بدخول القوات البحرية.

هدأت أمواج البحر من هيجانها وغضبها مع بزوغ فجر اليوم الجديد، واقتربنا أكثر من سفينة صيد أخرى. على الفور، وقف البحارة على حواف المركبتين، مُجهزين الحبال القوية استعدادًا لربطهما ببعضهما لإتمام عملية التحويل.

ولأننا مررنا بذلك في اليوم السابق، فقد فهمنا ما سيحدث لاحقًا، وعلت أصوات البحارة وهم ينادون بعضهم البعض ويأمرون بما يجب فعله حتى كادت المركبتان أن تلتصقا ببعضهما البعض، ثم بدأت عملية التحويل.

عند عملية التحويل، يُحَوَّل الأطفال أولاً، ثم النساء، وأخيراً الرجال. كل ذلك بمساعدة مجموعة من البحارة والشباب الأقوياء في طرفي المركبتين حيث يمسكون بمعصم ويد من سيتم تحويله، ثم يدفعونه بكل قوة إلى المركبة الأخرى.

هذه العملية الخطرة قد تستمر ساعة كاملة أو أكثر. وإذا علت الأمواج، تبتعدان المركبتان عن بعضهما، وتُعاد المحاولة عدة مرات حتى يتم تحويل الجميع.

كما يُحوَّل أيضاً المؤن والمياه الصالحة للشرب والوقود وأشياء أخرى، ولكن تم تحويلنا جميعاً بسهولة وفي زمن وجيز، لأن البحر كان هادئاً.

المركبة الحديدية التي ستقلنا نحو إيطاليا كانت قوية ومجهزة أكثر من سابقتها، فهي مكونة من طابقين؛ الطابق العلوي، أي السطح، يحتوي على غرفة القيادة (دفة المركبة) والمجهزة بجهاز الملاحة البحرية.

ظل قائد المركبة على اتصال مستمر مع المسؤول الكبير في مصر، المطلع على مجريات البحر المتوسط. أما السطح، فكان عبارة عن أرضية خشبية متينة مدعّمة بتداخلات حديدية ووضعت عليها المؤن.

أما في الطابق السفلي فنجد مقدمة المركبة، حيث يوجد سلم صغير يؤدي إلى الأعلى. كما توجد غرفتان صغيرتان تحتويان على أسرّة خشبية مخصصة للنساء والأطفال. بجانبهما مطبخ صغير جدًا، وبالقرب من المطبخ حمّام ضيق يستخدمه الجميع بالصفوف.

أمام المطبخ مباشرة تقع غرفة الماكينة (المحرك)، وإلى يمينها يوجد مخزن مياه التبريد، وهو يشبه صهريجًا كبيرًا وبه خرطوم خصص لمياه الشرب.

وعلى جانبها الأيسر وُضعت بعض البراميل المليئة بالمياه العذبة الصالحة للشرب. ثم تأتي مؤخرة المركبة بمساحة محدودة، بالإضافة إلى مخزنٍ سفلي واسع مخصص للأسماك، حيث حُشرنا فيه عبر سلم صغير في الساعات الأولى بعد تحويلنا.

في البداية، وبعد انتهاء عملية التحويل مباشرة، مُنعنا من الصعود إلى سطح المركبة حتى لا نلفت الأنظار ونجلب المتاعب؛ إذ إن ظهورنا جميعًا على السطح قد يثير شكوك خفر السواحل، فهذا المنظر وحده كافٍ ليدل على وجود مهاجرين غير شرعيين، خصوصًا وأن المركبة مرخصة للصيد فقط. كنا ما نزال في تلك اللحظات داخل المياه الإقليمية المصرية.

في تلك اللحظات كنا محشورين في المخزن السفلي، متكدسين فوق بعضنا البعض، بينما دوار البحر وحالات الاستفراغ لم تتركنا وشأننا. كانت المركبة تشق طريقها غربًا، تقطع عدة أميال بحرية ونحن في أسوأ حال.


حكاوي البحر كمان وكمان

أرسلت الشمس أشعّتها الذهبية نحو الماء بدون إستئذان وبكل هدوء لتخبرنا أن الصباح قد لاح ليمنحنا شيئًا من الأمل وقليلًا من الابتسامة.

هدأت الأمواج وتصالح البحر معنا، فخرجنا من ذلك المخزن الكئيب إلى السطح لنستنشق هواء البحر العليل، بحثًا عن أي منظر أو معلم نتحدث عنه أو نُسلّي به أنفسنا.

لكننا لم نرَ سوى السماء، ولم نؤنس سوى الهواء، ولم نشعر إلا بالماء. بقينا نتساءل في صمت: هل سنصل أحياءً إلى برّ الأمان، أم سنكون طعامًا لأسماك القرش في عرض البحر؟

لم يقطع شرودي إلا هدير محرك المركبة وهمسات الشباب من حولي، فقد بدأنا نتعارف للتو. كنتُ حينها صائمًا، ولو أنني قررت الإفطار لما كان هناك فرق كبير.

إذ لم تكن الوجبة سوى نصف رغيف يابس مع قليل من الفول، وأحيانًا يستبدلونه بقطعة جبن أو علبة تونة صغيرة أو قطعة من الحلاوة الطحينية.

بين حين وآخر، كنا نتلقى بعض حبات البصل النيئ لمن يرغب، أو بعض الطماطم، بينما في وقت الإفطار، كان طعامنا مماثلًا لما نأكله في الأوقات الأخرى.

في الأيام الثلاثة الأولى كنّا محظوظين نسبيًا، إذ كان الطعام يُوزَّع أكثر من مرة في اليوم، لكن مع دوار البحر والرطوبة العالية وتقلبات الجو لم نكن قادرين على الأكل سوى مرة واحدة فقط في اليوم.

كما وجدنا مساحاتٍ واسعةً للنوم، حتى في عزّ النهار وتحت شمسٍ حارقة، كنا نبحث عن ظلٍّ أو زاويةٍ هادئةٍ لنستريح فيها. وعلى الرغم من حرارة الجو وسخونته، كنا نغفو أينما وجدنا مكانًا مناسبًا.

أما طاقم المركبة المسؤول عنّا فكانوا يتعاملون معنا كالإخوة، ومعظمهم من أبناء مدن الساحل الشمالي المصري، ولهجتهم المميّزة كانت مختلفة عن لهجات باقي المدن المصرية.

تكوّن الفريق من نحو سبعة أفراد، بينهم الميكانيكي والملاح والصياد، وقد تعاملوا معنا بودّ طوال الرحلة. يظل الأخوان مصطفى وأحمد في ذهني، لما أظهراه من براعة في فنون الملاحة.

أعتقدنا جميعًا أن هذه المركبة ستعبر بنا إلى المياه الإقليمية لإيطاليا خلال يومين، بعد اجتياز المياه الدولية، لكن تبين لنا لاحقًا أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق.

في اليوم الثالث من رحلتنا، وبينما نحن في عرض البحر، ظهرت مركبة صيد خشبية أخرى تقل على متنها ما يزيد على مائة مهاجر، معظمهم سوريون، وتحمل معها بعض المؤن الإضافية.

كالعادة، جرت عملية التحويل بين المركبتين، وبعد اكتمالها أصبحت مركبتنا مكتظة بالكامل، فلم تعد هناك مساحات كافية للحركة أو الجلوس براحة. ومع هذا الازدحام الشديد بدأ مخزون المياه الصالحة للشرب ينفد شيئاً فشيئاً، وكذلك الطعام.

تساءلنا في أنفسنا متى سيبدأ الإبحار رسمياً نحو الشمال الغربي، ومتى سنتوقف عن تلك الحركة المملة ذهاباً وإياباً على نفس المسار؟ لم نجد من يجيبنا. كان البحارة يستقبلون التعليمات وينفذونها بدقة من خلال أجهزة اتصال متطورة، مثل جهاز "الثريا"، الذي يرسل لهم الإحداثيات مباشرة من مصر ليبرمجوا جهاز الملاحة بها.

لا يُسمح لهم بالتحرك إلا بأوامر المسؤول الكبير، لأن مخالفة الأوامر تعني تعرضهم هم وأسرهم لما لا يُحمد عقباه. كانت المركبة تبحر نحو الغرب لمسافة مائة ميل بحري، ثم تعود في نفس المسار نحو الشرق لمسافة سبعين ميلاً بحرياً، وأحياناً تختلف هذه المسافات. بمعنى أننا محبوسون في مكاننا ولن نتحرك إلا بعد امتلاء المركبة بالكامل.

كنا نلمح من بعيد السفن العملاقة وهي تعبر بين حين وآخر: سفن لنقل البضائع، وسفن بترولية، وسفن حاويات، وأخرى تجارية. وفي المساحة الضيقة التي ننام فيها داخل المركبة، تعرفتُ على معظم الشباب.

من بين الأشخاص الذين تعرفت عليهم، كان المهندس شوقي يوسف المقيم في بريطانيا حاليًا، وشقيقه مهدي الذي قضى وقتًا في بلجيكا قبل أن يعود إلى السودان، بالإضافة إلى الرفيق إدريس دوسة المقيم في فرنسا. وجميعهم من أبناء القضارف، إلى جانب آخرين.

في مساء اليوم الثالث، وبعد أن سادت الفوضى العارمة بخصوص الطعام والشراب، صمّم بعض الشباب السودانيين على تكوين لجنة تتولى توزيع الطعام والشراب، وتزويدنا بالمعلومات المتعلقة بعملية إبحارنا نحو إيطاليا. وقد أدّوا مهامهم على أكمل وجه حتى جاء اليوم السادس.

في صباح اليوم السادس لنا داخل البحر، جاءت دفعة جديدة، قليلة العدد نوعاً ما، وامتلأت المركبة أكثر من ذي قبل، وعاد الطاقم المصري الذي رافقنا لمدة ستة أيام على متن تلك المركبة.

اشتعل الغضب بين الناس وثاروا بشدة، مهددين القبطان الجديد بأنه إذا لم يبحر فورًا نحو إيطاليا، فسوف يحرقون المركبة ويغرقونها مع من فيها، لأن الانتظار طال جدًا ونفد صبرهم، وأصبح الوضع لا يُحتمل.

الطاقم الجديد للمركبة الذي وصلنا تواً واستلم دفة القيادة كان مصريًا في الخمسين من عمره، ومعه ميكانيكي كثير الكلام قليل الفعل، بالإضافة إلى بعض البحارة والصيادين.

كان برفقتهم أيضًا شاب سوري تحت التدريب (تعلمجي - مساعد بحار)، وهو مهاجر مثلنا، ومع مرور الوقت في اليوم السادس، بدأ الناس يفقدون صبرهم، فقد بقينا قريبين من المياه الدولية وعلى مقربة من ليبيا، وذلك لإبعاد الأنظار. وكمية الطعام والماء شارفت على الانتهاء.

المركبة حينها امتلأت، ولا يفصلنا عن الماء (الموت) سوى متر واحد فقط. وعدنا القبطان بأن هناك مركبة أخرى ستأتي مساء نفس اليوم، وأنها في الطريق إلينا، وتحمل المؤن والوقود والمياه الصالحة للشرب، وبعدها سيتحرك بنا نحو إيطاليا فوراً.

هدأنا قليلاً طالما وجدنا أجوبة على أسئلتنا المعلقة كلها، وانتظرنا حتى المساء، وبالفعل وليس بالقول، ظهرت مركبة من على البعد، وتمت عملية التحويل كالعادة رغم الأمواج العاتية. تم إنزال كل ما ذكرناه سابقاً، وأيضاً أضيفت إلينا مجموعة أخرى من المهاجرين.

قبل أن تنتهي عملية التحويل بلحظات، اصطدمت مركبتنا بقوة بالمركبة الأخرى، فعم الهلع والخوف بين الجميع وظننا أننا سنغرق في تلك اللحظة.

حينها، ارتفعت أصوات الدعاء وتلاوة القرآن وترانيم الإنجيل، وكان الموقف رهيبًا، لكن سرعان ما هدأ كل شيء. وبعد ساعات طويلة، جاءت اللحظة التي طال انتظارنا لها، حين أبحرنا أخيرًا نحو الشمال الغربي.

نحو إيطاليا وإقتراب الحلم

حلّ علينا اليوم السابع ونحن ما زلنا في عرض البحر، وكان عددنا 314 شخصًا على متن مركبة لا يزيد طولها كثيرًا عن عشرين مترًا، مكونة من طابقين ومخصصة أساسًا للصيد، رغم أنها لا تُصمم لتحمل أكثر من خمسين شخصًا في الظروف الطبيعية، أو مئة في أسوأ الحالات.

لكنه جشع وطمع المهربين، إذ لا تهمهم حياة الناس بقدر ما تهمهم رزم الأوراق الخضراء، لكنهم أيضًا لم يُجبروا أحدًا على المجازفة بحياته، فالجميع مسؤول عن نفسه.

كنّا نبحر نحو الشمال الغربي، واختلفت جنسيات المهاجرين؛ فقد أصبحت المركبة تحمل على متنها أممًا وشعوبًا مختلفة من السودان وسوريا وجزر القمر والعراق وفلسطين ومصر وإريتريا وإثيوبيا والصومال.

شكل السودانيون حوالي ثلثي المهاجرين تقريبًا، وكنت أعرف معظمهم في المركبة، وما زلتُ أتذكر بعضهم حتى الآن، بينما كانت ثاني أكبر الجنسيات عددًا هي الجنسية السورية، أما بقية الجنسيات فكانت أعدادها متقاربة.

ضمت المركبة تنوعًا بشريًا لا يصدق؛ فقد كان معنا أطفالٌ رُضَّع ويافعون، ومراهقون وشباب، وشيوخ ومرضى، ونساء حوامل، وكل أطياف البشر. كانت بحق مركبة الأمل والحياة.

كان لا بدَّ من المرور بالقرب من أرخبيل الجزر اليونانية الجنوبية البعيدة، دون رؤيتها بالطبع، ثم مواصلة الطريق نحو جزيرة صقلية في أقصى جنوب إيطاليا.

لكنَّ الوضع لم يكن بهذه السهولة، فلا بدَّ أن تمرَّ الأيام والليالي، وكانت أيامًا صعبة؛ فالأمواج تحاصرنا ليلًا، وفي مرات كثيرة كانت المياه تدخل إلى داخل المركبة، وكان البرد ينال منا أشدَّ النَّيْل.

عجبًا! لم نستحمّ منذ العاشر من رمضان، أي منذ أكثر من أسبوع، ونحن بالملابس نفسها. وما لاحظتُه ولاحظه غيري أن المياه المالحة مقاومة للعفن والروائح الكريهة، وهو أمرٌ كان في صالحنا، فالملح في كل مكان.

قد تغيّرت أشكالنا كثيرًا بفعل ضربات الشمس نهارًا، والجوع والعطش والإرهاق النفسي والبدني، وبفعل حمّام المياه المالحة القسري، خاصةً في الليل عندما يهيج البحر. ورغم ذلك، ظلّ الأمل يملأ قلوبنا، ممسكًا بنا بقوة نحو غدٍ أفضل.

لا تستطيع أن تفعل شيئًا سوى تبادل أطراف الحديث مع من حولك من الشباب، أو شرب جرعة قليلة جدًّا من المياه المعدنية التي جلبتها معك من مصر وتوزيعها على من حولك؛ فهناك من لا يملك شيئًا سوى نفسه.

والأمر نفسه ينطبق على الطعام الذي معك، فالتعاون مهمٌّ في تلك المواقف والظروف. كذلك كنّا نلتزم بمبدأ التناوب في النوم.

السير على سطح المركبة، حتى وإن كان لمسافة قصيرة لا تتجاوز مترين، يعد من أصعب الأمور على الإطلاق، إذ يتوجب عليك تحمل عفص ودوس أكثر من عشرين شخصًا على الأقل، وقد تكون إما الجاني أو الضحية. وحتى لو تمكنت من التقدم، عليك أن تتمسك بقوة بأي شيء لتجنب السقوط فجأة في عرض البحر.

أحيانًا كانت المركبة ترتفع لأكثر من خمس أو ست أمتار، ثم ترتطم بسطح البحر بقوة، كأنها ستغرق في التو واللحظة. وهنا، ترتفع مرة أخرى أصوات الناس، والهمهمات، والهمسات من الأغلبية، وتعلو أصوات الدعاء وقراءة القرآن وترانيم الإنجيل بأن نصل سالمين. ويتم حشر وإبقاء الناس في زوايا معينة للحفاظ على توازن المركبة.

أتذكر جيدًا شابين سودانيين كانا على وشك فقدان حياتهما، إذ يعاني كلاهما من مرض السكري ومشاكل في الكلى. أحدهما، واسمه عمر من شرق السودان، يحتاج إلى حقن الأنسولين التي لم يكن بحوزته أثناء الرحلة. أما الآخر فاسمه أحمد إبراهيم، إن لم تسعفني الذاكرة. لكنهما نجيا من الموت المحقق، وكان فرحنا بذلك عظيمًا.

كانت الطيور المائية تحلق فوق رؤوسنا بين الحين والآخر، ولم نفوت فرصة مشاهدة عروض الدلافين المذهلة التي استمرت لأكثر من نصف ساعة في يوم ما، بالإضافة إلى قفزات الأسماك الصغيرة المرحة، ومنظر السفن الكبيرة الذي أضفى على لحظاتنا طابعًا من السعادة والفرح.


في مثل هذه اللحظات، عليك أن تتأقلم مع جميع الظروف التي تحيط بك، سواء أكانت سهلة أم صعبة. لا مفر من التضحيات للوصول إلى أسمى الأهداف، ورغم كل المصاعب، كان حماسي يتزايد وتملؤني روح المغامرة.

كان رفيقنا ياسين من جزر القمر، خير جليس وأنيس لنا طوال الرحلة. أخبرنا عن دراسته في السودان ومصر، وعن تحدثه لأربع لغات، وامتلاكه ثقافة واسعة. محبوب من الكل، كان يكسر رتابة الرحلة بحيويته وروحه المرحة، وكان فعلاً فاكهة الرحلة.

الآن يقيم في فرنسا، كما هو الحال مع معظم المهاجرين من جزر القمر، الذين يتجهون مباشرة إلى هناك بعد وصولهم إيطاليا، بسبب الروابط التاريخية والثقافية، حيث كانت فرنسا مستعمرة قديمة لتلك الجزر.

بلغ عدد المهاجرين من جزر القمر في المركبة عشرين شخصًا على الأرجح، مناصفةً بين الرجال والنساء. كان جميعهم من الطلاب والطالبات الذين درسوا في السودان ومصر، وقد غادروا أوطانهم نحو أوروبا بحثًا عن مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا.

خُصصت إحدى الغرفتين الصغيرتين لنساء جزر القمر، وشاركتهم الإقامة سيدة إثيوبية وأخرى سورية مسنة، أما الغرفة الأخرى فكانت مخصصة للسوريات مع أطفالهن، إضافةً إلى سيدة إريترية مع أطفالها.

حقيقةً، كانت اللجنة التي تكونت من السودانيين سببًا رئيسيًا في تحركنا في ذلك اليوم، حيث قاموا بتوزيع الوجبات على الجميع بطريقة عادلة، رغم أن الوجبة كانت مجرد نصف رغيفة يابسة مع قليل من الجبن، وكوب ماء صغير فقط، خاصة في الأسبوع الأخير لنا. فقد انتهت أيام الدلال، وولّت لحظات الرفاهية، لكن اقترابنا يومًا بعد يوم من إيطاليا جعلنا ننسى بعض المآسي، فالحلم يقترب.

في صباح يوم الأربعاء 8 يوليو 2015م، الموافق 22 رمضان 1436هـ (اليوم العاشر لنا في المركبة)، جاءت إلينا البشريات الجميلة والسارة من البحارة واللجنة الخاصة بالمركبة، تفيد بأننا اقتربنا من المياه الإقليمية الإيطالية.

في ذلك الوقت، كان من الضروري أن نتواصل مع منظمة الصليب الأحمر، التي لديها رقم طوارئ معروف لدى المهربين، وذلك استعدادًا لأي حالة طارئة أو غير متوقعة.

كنا أيضًا حذرين من مواجهة قوات خفر السواحل الإيطالية، لأن تعاملهم صارم ويستخدمون القوة المفرطة لأخذ بصمات الأصابع، مما يجعل محاولة الدخول إلى دول أوروبية أخرى غير إيطاليا بلا جدوى.

مع اقترابنا من إيطاليا، تلاشت رغبتنا في البقاء بها. قبل أيام قليلة، وبينما كنا في عرض البحر، كانت آمالنا معلقة بالوصول إلى أي أرض أوروبية تنقذنا من دائرة الموت، أما الآن، فقد تغير الوضع وأصبح لزامًا علينا الحذر الشديد في خطواتنا المقبلة.

في صباح ذلك اليوم، تواصلنا مع منظمة الصليب الأحمر عدة مرات، بينما كانت المركبة تبحر باتجاه إيطاليا. في منتصف النهار، حلقت فوقنا طائرة مائية صغيرة تابعة للمنظمة لتحديد موقعنا واستطلاع الوضع عن قرب.

بعد فترة وجيزة، برزت في الأفق سفينة تجارية ضخمة لا تنتمي للمنظمة، ويبدو أنها وصلت لمنعنا من الإبحار. لذلك، توقفت المركبة في عرض البحر بانتظار وصول سفينة الإنقاذ والمساعدات.

بمجرد أن طمأنّ الناس إلى قرب وصولهم، شرعوا في تمزيق ورمي أوراقهم الثبوتية في البحر، لأن قوانين الهجرة لا تُجدي نفعًا مع من يحملون المستندات الحكومية، وغالبًا ما يعيدونهم إلى بلادهم. أما السوريون، فكانوا الأكثر حرصًا على الاحتفاظ بأوراقهم الرسمية التي تثبت أصولهم من سوريا التي تمزقها الحروب.

بدوري، كنت أحتفظ بصورة من جواز سفري الذي فقدته أثناء أيامي في القاهرة، وكان جواز السفر لا يحمل اسمي أو بياناتي الحقيقية، بل احتوى فقط على صورتي. تخلّصت من هذه الصورة لاحقًا حفاظًا على سلامتي واطمئناني.

تم توقيف محرك المركبة حينها، واتفق البحارة معنا على عدم الإفصاح عن وجودهم، حفاظًا على سرّهم، لأن انكشاف أمرهم قد يؤدي إلى عقوبة السجن.

حيث كانوا يجلسون بيننا كمهاجرين، لكننا مطالبون في التحقيقات بالقول إنهم أُخذوا بمركبة أخرى أكبر وأسرع، ولا نعلم إلى أين ذهبوا.

بعد مضي نحو عشر ساعات على مغادرة الطائرة لموقعنا، وبينما كانت السفينة التجارية الضخمة تمنعنا من التحرك، ظهرت في أفق العصر سفينة الإنقاذ النرويجية الهائلة.

يا لها من لحظات لا تُنسى! فقد لاحت أمامنا سفينة الحياة والأمل، لتعلو وجوهنا ابتسامات الفرح ونشوة الانتصار. وما إن اقتربت، حتى انسحبت السفينة التجارية، تاركة المجال للسفينة النرويجية المتعاونة مع منظمة الهجرة الدولية والصليب الأحمر.

اقتربت السفينة كثيرًا منا، ثم أنزلت قاربين صغيرين، في كل قارب ثلاثة أشخاص: السائق، والمحقق المصوّر، ورجل مسلح تحسبًا لأي طارئ.

انتهت عملية التصوير، وصعدوا إلى المركبة ليكتشفوا جهاز الثريا مع شاب سوري. تم القبض عليه على الفور، ولم يتوانَ في الإبلاغ عن البحارة الذين كانوا معه. كان هذا المشهد صادمًا ومثيرًا للاستياء، إذ اقتيد البحارة إلى مكان مجهول، تاركين مصيرهم غامضًا.

بعدها، خاطبونا عبر مكبرات الصوت، طالبين منا الثبات وعدم الانحناء إلى جهة واحدة حفاظًا على توازن المركبة. ألقوا سترات النجاة لكل من الصغار والشباب والكبار دون استثناء، ثم شرعوا في سحب مركبتنا ببطء نحو سفينتهم.

باشروا فورًا بإجلاء المرضى أولًا، ثم الأطفال، تلاهم النساء، وأخيرًا الشباب، عبر السلم الذي يصل إلى سفينتهم الكبيرة، حتى تم إخلاء المركبة بالكامل من الركاب.

صراحةً، لم نشعر بالأمان والاطمئنان إلا بعد أن أنقذتنا السفينة النرويجية؛ فكانت سفينة ضخمة جدًّا ومجهّزة بكل شيء. وما إن صعدنا إليها حتى بدأ الخوف يتلاشى تدريجيًا، وحل محله شعور بالأمل والطمأنينة.

بعد إنقاذنا مباشرة، جُمعت حقائبنا لحجزها ورشّها بمادة مطهّرة خوفًا من الأمراض المعدية، كما رُشّت أيدينا بمادة مطهّرة لإزالة الأملاح والجراثيم.

تم توزيع المياه المعدنية وقطعتين من الشوكولاتة وأغطية نوم جديدة علينا، ثم أُخذت أسماؤنا، ومعظمنا، على ما أظن، استخدم أسماءً وهمية تحسبًا لما قد يحدث في الأيام القادمة.

كما وُضع لكل منا طوق بلاستيكي حول المعصم يحمل رقمًا معينًا، لنتمكن بواسطته من استلام مقتنياتنا الشخصية عند الوصول إلى جزيرة صقلية.

بعد رفع المركبة بواسطة الرافعات الضخمة المثبّتة على السفينة النرويجية، تم ملؤها بمياه البحر حتى غرقت بالكامل، لتستقرّ أخيرًا في أعماق البحر المتوسّط، حيث انتهت رحلتها هناك إلى الأبد بعد أن أدّت دورها الأخير بنجاح.

كان طاقم السفينة النرويجية يضم أكثر من ثلاثين شخصًا، بينهم أطباء وبحّارة وجنود وموظفون أمميون ومترجمون، إضافةً إلى رجالٍ ونساءٍ آخرين، كلٌّ منهم يؤدي دوره بدقةٍ وانضباط.

عندما كنّا على سطح السفينة الواسع والمريح، لم نشعر مطلقًا بحركتها؛ فبسبب ضخامتها لا تكاد تحسُّ بالأمواج أو الإبحار أو بما يجري حولك. كانت المسافة بين سطح السفينة ومياه البحر كبيرةً تمتد لعدة أمتار.

واصلنا الإبحار طوال الليل باتجاه صقلية، وكان الشعور غريبًا، عميقًا وجميلًا؛ إذ لم يعد هناك ما يمكن أن يعيدنا مجددًا إلى إفريقيا أو الشرق الأوسط.

الحمد لله كثيرًا على النجاة من الفناء ومواصلة البقاء. وما هي إلا ساعات ونلامس اليابسة التي لم نرها لأكثر من عشرة أيام حتى فقدنا الإحساس بها، كما فقدت بدورها شعورها بنا.


ولادتنا من جديد في كاتانيا 

يُعد صباح يوم الخميس 9 يوليو 2015م، الموافق 22 رمضان 1436هـ، وهو اليوم الحادي عشر لنا في البحر، من أجمل وأثمن لحظات حياتي، إذ لمحت اليابسة ومدينة كاتانيا الساحرة من بعيد، تلوح تدريجيًا أمامنا، قبل أن ترسو السفينة الكبيرة في مينائها بجزيرة صقلية جنوب إيطاليا.

هل أنا فعلاً في قلب أوروبا، في إيطاليا العريقة، الوريث الشرعي للحضارة الرومانية التي تزخر بكنوزها؟ هل هذه هي الدولة التي تشتهر بسيارات الفيراري واللامبورغيني، وبرج بيزا المائل، والكولوسيوم الأسطوري، وأندية ميلان وإنتر ويوفنتوس وروما ولاتسيو ونابولي؟

تلك الدولة التي تذخر بالسباغيتي والبيتزا، والموضة، والمافيا، والبندقية، والفاتيكان، وعباقرة مثل ميكافيللي وبيكاسو ودانتي، وأسطورة كرة القدم مثل مالديني وتوتي وبوفون وبيرلو، وملعب سان سيرو؟

كل هذا الجمال وأنا هنا! لا أستطيع أن أصدق الأمر؛ هل أنا أحلم؟ فليؤكد لي أحدكم أنني لا أحلم، وأن كل هذا حقيقي وواقعي، وأننا في إيطاليا الجميلة. حقًا، إنه الشرف الباذخ.

ألقت السفينة مرساتها الضخمة في ميناء مدينة كاتانيا الجميلة شرق جزيرة صقلية، وبدأنا ننزل واحدًا تلو الآخر ببطء، وكان الجميع يستلم أغراضه ومقتنياته باستخدام الرقم الموجود على الطوق البلاستيكي في معصمه.

كان الإحساس غريبًا عندما وطأنا اليابسة، كأنها المرة الأولى، وكأننا خرجنا للتو من عملية جراحية ناجحة. لاحظنا على الفور كثرة وسائل الإعلام المختلفة وحديث البعض معهم، لكننا لم نُعرهم اهتمامًا كبيرًا، فالمستقبل يحمل لنا أكثر بكثير.

أُجريت لنا إجراءات روتينية ومملة بالقرب من الميناء مباشرة، حيث نُصبت هناك خيام تابعة للصليب الأحمر لأخذ بياناتنا الشخصية، وتفتيشنا، والتحقق من هوياتنا من خلال أسئلة معتادة عن شخصياتنا وبلداننا.

مررنا بمعظم تلك الخيام والصفوف، وإذا عانى أحدنا من مرض ما، فهناك سيارة إسعاف بانتظاره لنقله إلى أقرب مستشفى في المدينة. وكان الجو حولنا يعج بالحركة والهمسات، كأن المدينة تستعد لاستقبال كل قادم إليها من طرق البحر الطويلة.

كانت هناك خيمة في الوسط تحتوي على جهاز لأخذ البصمات، ولا يُجبَرك موظفو منظمة الهجرة الدولية أو الصليب الأحمر على إعطاء بصماتك. وكان الإعلام قريبًا منهم يصور كل شيء.

إذا وقعت ضحية لبعض الكلمات أو الإشارات وأعطيت بصمتك، فلن تستطيع مغادرة إيطاليا أو التقدم بطلب لجوء في دولة أخرى، إذ ستُعاد إليها قانونيًا، مع احتمال استثناء فرنسا. ولم أخدع بكلماتهم ولا بتبريراتهم، وكذلك كان حال معظمنا.

تلك الإجراءات الطويلة والمملة تضمنت التأكد من بلدك الأصلي، والتحقق من هويتك، بالإضافة إلى فحص هاتفك قبل إعادته، والكشف الطبي، إضافةً إلى إجراءات أخرى عديدة.

حصل الجميع على وجبات طعام متنوعة مع بعض الفواكه والمياه المعدنية، إذ كنا على وشك الهلاك من شدة الجوع والعطش والتعب والإرهاق.

قبل لحظات قليلة من المرور بتلك الإجراءات الروتينية، أخرجت هاتفي واتصلت بعائلتي. لم يكن أحد منهم يعلم أنني غادرت مصر عبر البحر، فقد كانوا يظنون أن سفري سيكون عن طريق المطار فقط لا غير. ففي حال أنني كنت صارحتهم بالأمر مسبقًا، لتعقدت الأمور كثيرًا.

كنت أدرك جيدًا أهمية تفعيل خدمة التجوال الدولي منذ وجودي في القاهرة، لذا اخترت استخدام شريحة "اتصالات" المصرية التي وفرت لي هذه الخدمة في الوقت المناسب.

حين اتصلت بمنزل أسرتي، تحدثت مع شقيقي الأصغر علاء الدين، وأخبرته أنني وصلت إلى إيطاليا بخير دون الخوض في تفاصيل الرحلة أو وسيلتها، ووعدته بأن أتواصل معهم مجددًا خلال أيام.

بعد دقيقتين فقط، انقطع الاتصال فجأة بسبب نفاد رصيدي. ورغم ذلك، شعرت براحة كبيرة لأنهم اطمأنوا عليّ، وكانت تلك المكالمة القصيرة بالنسبة لي أهم مكالمة هاتفية في حياتي.

قوات الشرطة الإيطالية كانت مرابطة بالقرب من سور المخيم المكشوف، ومهمتها منع أي محاولة للمغادرة أو الهروب، حيث كانت هناك حافلات سفرية ذات طابقين ستنقلنا على شكل مجموعات إلى مدن إيطالية مختلفة، ولكل مجموعة نصيبها مما سيحدث لها لاحقًا.

كان اليوم طويلًا، فركب الجميع الحافلات الأولى والثانية والثالثة وما تلاها لاحقًا، وبين كل حافلة وأخرى كانت تمضي فترة طويلة بسبب بطء الإجراءات داخل المخيمات.

ظللت مع مجموعة من الشباب دون أن نعرف سببًا واضحًا لهذا التأخير غير المبرر، ولذلك كنا آخر من غادر الميناء متجهين نحو الشمال مع غروب الشمس.

إلى مدينة نابولي ساحرة الجنوب

تحركت الحافلة ذات الطابقين نحو الشمال، ونحن نشاهد بأعيننا مدن إيطاليا الساحرة على هذه الجزيرة الجميلة والكبيرة، مدينةً تلو مدينة، وبلدةً بعد بلدة، وريفًا بعد ريف. ورغم الإنهاك البدني والذهني، كنا سعداء للغاية بهذه الجولة السياحية المجانية، فقبل أيام قليلة فقط كنّا بين الحياة والموت.

ما زلنا نتجه نحو الشمال عبر الطريق السريع، والليل يسدل ستائره، فاسحًا المجال لأضواء المدن لتأخذ دورها في الإضاءة. وتبدأ أصوات الليل تختلط بأحاديثنا الخافتة، بينما نراقب الأضواء تومض كنجومٍ بعيدة تذكرنا بحكايات لم تُروَ بعد.

كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء في الطابق العلوي من الحافلة، مبهورًا بجمال كل بلدة ومدينة، إذ بدت كل واحدة أجمل من سابقتها.

كانت رحلتنا بين الأنفاق الجبلية والممرات الضيقة والطرق الساحلية، نتنقل أحيانًا عبر جسور معلقة ونقطع خطوط السكك الحديدية، أو نُسير في طرق سريعة متطورة. فكل دول أوروبا تفتخر ببنيتها التحتية المتقنة.

بعد ذلك وصلنا إلى مدينة ميسينا الواقعة في أقصى الشمال الشرقي لجزيرة صقلية، حيث تنتظرنا العبّارة البحرية الكبيرة التي سنركبها لعبور البحر والوصول إلى البر الإيطالي الكبير.

ركبنا العبّارة الضخمة القادرة على استيعاب العديد من المركبات والحافلات الصغيرة والكبيرة في وقت واحد، والتي تعبر المضيق المائي الضيق بين مدينة ميسينا في جزيرة صقلية ونظيرتها ريجيو كالابريا الواقعة على البر الإيطالي.

هذا المضيق يفصل بين البحر الأيوني والبحر التيراني، وهما فرعان من البحر الأبيض المتوسط نفسه. هناك رأينا حافلة ذات طابقين (بص سفري) سبقتنا بقليل بالقرب من مخيم الصليب الأحمر في صقلية.

وصلنا بعدها إلى منطقة فيلا سان جيوفاني التابعة لريغيو كالابريا، وكان الليل قد حلّ بنا واقترب الفجر، وما زلنا نتقدم شمالاً في رحلتنا.

قبل أن نصل إلى مدينة نابولي الكبرى، عبرنا مدنًا وبلدات ساحرة في ساعات الصباح الأولى، وكانت أجمل المشاهد تلك المدن والقرى التي تمزج بين الطراز الروماني العريق والكلاسيكي، والحياة العصرية المعاصرة.

تمتاز إيطاليا بمدن وبلدات متناثرة، وأراضٍ زراعية خصبة من سهول خضراء، ووديان تحتضن بحيرات صغيرة ساحرة، بالإضافة إلى غابات كثيفة وسواحل خلابة وجبال مغطاة بالنباتات، مع مناظر طبيعية تبعث على السحر والهدوء تحت ستار ضباب خفيف.

شاهدنا وفهمنا أسرار العلاقة الرومانسية الجميلة بين الساحل ومدنه، التي تتجلى في الشوارع والطرقات التي شُيّدت على قمم الجبال والهضاب. وأروع ما في الأمر هو المدن والقرى التي بُنيت في وديان أسفل الجبال، كأنها لوحة رسمها فنان عبقري في أوج إبداعه، ومنها مدينة ساليرنو الساحرة.

المركبات والحافلات الأخرى التي تقل باقي المهاجرين ذهبت في اتجاهات مختلفة إلى مدن أخرى، فكل مركبة لها خط سير معين وأوامر محددة من قبل السلطات الإيطالية لتفريق المهاجرين، ووفق سياسة ومنهجية معينة وخطط مدروسة بعناية. لذلك، لم نرَ أصدقائنا الآخرين إلا في محطات القطارات الكبرى بمدن الشمال الإيطالي بعد أيام قليلة.


داخل نابولي

استقبلتنا مدينةُ نابولي بفتورٍ وابتسامةٍ باهتةٍ في نهارِ يومِ الجمعة 10 يوليو 2015م، الموافقِ 23 رمضان 1436هـ، إذ أدخلتنا في التجربةِ الأخيرةِ الصعبةِ التي كنا نحسبُ لها ألفَ حساب، ألا وهي عمليةُ أخذِ بصماتِ الأصابعِ العشرة.

لكننا تخطَّيناها بصعوبةٍ، كما سنعرف لاحقًا، فبعد ساعاتٍ طويلةٍ منذ تحرُّكِنا من كاتانيا، لم تطأ أقدامُنا الأرضَ إلا عند وصولنا إلى قسمِ شرطةِ نابولي.

أُدخلنا جميعاً إلى القسم، كنا أكثر من أربعين شخصاً بقليل، حيث نُقل السوريون الذين كانوا معنا إلى مكان آخر في نابولي نفسها. وكان معظمنا من السودان، بالإضافة إلى شاب مصري مسيحي من أهل الصعيد وبعض الإريتريين والإثيوبيين.

في البداية، طلبوا منا الدخول إلى مكاتب رجال الشرطة في القسم واحداً تلو الآخر، لكننا رفضنا ذلك رفضاً قاطعاً. أخبرت الشباب أننا مستعدون للاعتصام في مركز الشرطة إذا اقتضى الأمر، لأنني لم أتحمل كل تلك المعاناة والمخاطر لأصل إلى هنا ثم أوقع بصماتي وأبقى عالقاً.

لذا قرر الجميع الامتناع عن الدخول، ما أدى إلى فوضى عارمة، ووصلت رسالتنا بوضوح إلى الضباط وإلى جميع أفراد القسم.

جاء الضابط المسؤول عن ملف اللاجئين في القسم، ترافقه مترجمة تجيد اللغة الإنجليزية وتنحدر من جزيرة سيشل أو موريشيوس، لا أذكر بالتحديد. وقال لنا الضابط إنه من الناحية القانونية يُفترض أن تُؤخذ بصماتنا، لكنه أكد أنهم لن يجبرونا على ذلك، وأن الأمر سيقتصر على تصويرنا وأخذ بعض البيانات الشخصية. عندها فقط هدأت ثورتنا.

لم نكن مطمئنين تماماً لما قاله الضابط، فبادر صديقنا المهندس شوقي بالتطوع ليكون أول من يدخل. قال لنا بثقة إنه سيخوض هذه المغامرة، ثم يعود ليخبرنا بما جرى معه: هل سيجبرونه على البصمة أم سيكتفون بالتصوير وأخذ البيانات؟

كنا نعي جيدًا أن بعض رجال الشرطة لا يتوانون عن استعمال العنف أو التخدير لأخذ البصمات، وقد واجه بعض أصدقائنا هذه المعاملة لاحقًا.

قولاً وفعلاً، دخل شوقي، وعاد بعد دقائق قليلة ليؤكد لنا أن الضابط التزم بما وعد به حرفيًا. في تلك اللحظة فقط، شعرت أنني أصبحت حقًّا في قلب أوروبا، وليس مجرد عابر سبيل. عندها عقدت العزم على المضي قدمًا نحو هدفي الواضح: الوصول إلى المملكة المتحدة، وتحديدًا إلى لندن.

دخلتُ المكتبَ بثقةٍ بعد أن سبقني إليه عددٌ من الأشخاص، وخرجتُ منه دون أن أُجبَر على البصمة. وبعد نحو ساعةٍ كانت الإجراءاتُ قد اكتملت لنا جميعًا، فأعادونا إلى الحافلةِ نفسها.

ولحسنِ حظِّنا، أُتيح لنا أن نقوم بجولةٍ قصيرةٍ وسط شوارعِ نابولي الجميلة قبل أن نتجه نحو الضاحيةِ الشماليةِ للمدينة. كان الجو حارًا، وأشعة الشمس تسطع بقوة، لكن الألوان الزاهية للمباني والمشاهد الحياتية حولنا أضفت على المكان حيوية خاصة، مما جعلنا نشعر بنوع من الانتعاش وسط ذلك الحر.

وصلنا بعد الظهر إلى ضاحية (دي فرانسيا) الجميلة شمال نابولي، بعد أن أمضينا منذ غروب شمس الأمس داخل المركبة دون توقف، إلا حين أُجبرنا على الوقوف في قسم شرطة نابولي بسبب الإجراءات البوليسية.

كنّا في حالة إنهاكٍ تام: متعبون، منهكون، متّسخون، وقد أنهكنا العطش والجوع، إذ لم نتناول أو نشرب شيئًا يُذكر منذ اليوم السابق، وملابسنا لم نغيّرها منذ أسبوعين. ورغم هذه المعاناة، كان أجمل ما في الأمر نجاتنا من البصمة المشؤومة، ذلك الإنجاز الذي اعتبرناه مكسبًا كبيرًا.

هذا المعسكرُ الموجودُ في منطقةِ دي فرانسيا شمالَ نابولي عبارةٌ عن فيلا كبيرةٍ تضمُّ طابقًا علويًّا وساحةً خضراءَ صغيرة. ويقيم في الطابقِ الأرضي مهاجرونَ أفارقة، خاصةً من منطقةِ جنوبِ الصحراءِ الكبرى.

حيث معظمهم ينتمون إلى دولٍ مثل: ساحل العاج، بوركينا فاسو، غينيا، غامبيا، غانا، توغو، مالي، بنين، الكاميرون، نيجيريا... إلخ. وقد لاحظنا كثرةَ المعسكراتِ المشابهةِ في المنطقة نفسها.

كما تنتشر معسكرات مماثلة قرب معظم المدن الإيطالية، وتكتظ بالمهاجرين القادمين من القارة الإفريقية خصوصًا ومن بعض الدول الآسيوية والعربية.

علمنا منهم أن أغلبهم قد سُجّلت بصماتهم في إيطاليا، وأنهم لا يحملون أي وثائق رسمية. وفي مقابل ذلك، تقوم السلطات المحلية بمهام توفير الإسكان لهم، كما تمنحهم مبلغًا قليلًا من المال وتتكفل بتأمين حاجياتهم من الطعام والشراب.

صراحةً، هذه ليست حياةً مثاليةً من وجهةِ نظري الشخصية؛ فلا فرقَ بينك وبين المواشي التي تلقى الرعايةَ في حظائرَ مخصَّصةٍ لها من قبلِ أصحابها. فأنت مقيَّدٌ لا تستطيعُ فعلَ شيء.

في أوروبا عامةً، إذا لم تكن تملكُ أوراقًا رسميةً أو إقامةً أو جنسيةً، فعليك مغادرتَها، لأن حياتَك ستصبح جحيمًا، والعكسُ صحيحٌ ورائعٌ إذا توفرت لك هذه المستندات.

أما المترجم، والذي يُرجَّح أنه من تشاد أو جنوب ليبيا، فترجم لنا بعض القوانين إلى اللغة العربية. وبعد ذلك قُدّمت لنا وجبات إيطالية دسمة، ثم صعدنا إلى الطابق العلوي حيث خُصص لكل واحد منا سرير خاص، غير أننا جميعًا كنا في صالة واحدة واسعة تضم عددًا كبيرًا من الأسرّة.

هذه المعسكرات غير مراقبة جيدًا، ويمكنك مغادرتها متى شئت. والأفضل لمن لا يملك بصمة ويرغب في الانتقال إلى دولة أوروبية أخرى أن يغادرها فورًا، أو بعد يوم على الأكثر.

لا يمكنك البقاء في المعسكر لأكثر من يومين دون أن تأتي الشرطة لأخذ بصماتك. فإدارة المعسكر لديها سجلات دقيقة، وتعرف تمامًا من بصم ومن لم يفعل، وهي لا تتردد في الاتصال بالقوات النظامية لإكمال الإجراءات.

عبّرنا للمترجم عن رغبتنا الشديدة في مغادرة المعسكر فورًا بعد الغداء، لكنه طمأننا ألا نقلق وأن المغادرة ستكون في صباح اليوم التالي، خاصةً وأن معظم مقاطعات جنوب إيطاليا تشهد نشاطًا لعصابات المافيا في ساعات الليل، وكان الليل قد بدأ يخيّم أيضًا.

ثم جلسنا في الاستراحة الخارجية نشاهد التلفاز مع الإخوة الأفارقة ونتبادل معهم أطراف الحديث. كانوا لطفاء جدًا وعانوا كثيرًا قبل الوصول إلى إيطاليا، فقد قطعوا الغابات والسهول والصحاري والبحار قبل الوصول إلى أوروبا عن طريق ليبيا.

ولسوء الحظ، كثير منهم لديه بصمة أصابع في إيطاليا. ومن يستطيع الحصول على الإقامة في إيطاليا يترك المعسكر فورًا ويعيش حياة طبيعية كباقي الناس.

عند الغروب تم توزيع وجبة العشاء على الجميع، ثم صعدنا إلى الطابق العلوي، وأخذ كل منا سريره. ولأول مرة منذ أكثر من أسبوعين تقريبًا، سأنام على سرير، ويا له من نوم!

في صباح اليوم التالي، عند استيقاظي، شعرت بأن العالم يدور من حولي، بينما كنت أتحرك في الاتجاه المعاكس. أصبح رأسي ثقيلاً كما لو كان يحمل صخرة كبيرة، والسبب هو دوار البحر الذي استمر في التأثير علي لعدة أيام. بتثاقل، توجهت لأخذ حمام دافئ في الطابق الأرضي رغم الزحام.

ولأول مرة منذ أكثر من أسبوعين، لامس جسدي ماءً عاديًا وليس مالحًا (لا لون له ولا طعم ولا رائحة). كم كنت مشتاقًا إلى الماء، والملح بآثاره ما زال معنا كضيف ثقيل الظل.

أتذكر أنني شعرت وكأنني عدت إلى الحياة عندما وجدت حقيبتي بحوزتي، وبها ملابس نظيفة. تخلصت من الملابس القديمة التي كنت أرتديها، وحلقت ذقني، فأحسست أخيرًا أنني إنسان طبيعي بعد كل تلك المعاناة.

في ساحة المعسكر، أديتُ بعض الفروض التي فاتتني قبل أن نغادر. ثم وُزّع الإفطار علينا بعد أن وقفنا في صف منظم، وهذا ليس غريبًا، فالنظام والصفوف والأولوية هي الأساس في أوروبا، والجميع سواسية أمام القانون.

كنا على وشك المغادرة، لكن المترجم نصحنا بالصبر قليلًا نظرًا للتظاهرات والاحتجاجات التي ينظمها سكان المنطقة ضد وجود المهاجرين. أشار إلى أن الخروج في هذا الوقت قد يعرضنا لمشاكل لا نرغب بها، ونحن ما زلنا في بداية الرحلة.

وجدتها فرصة جيدة، فشحنت بطارية جوالي وأخرجت المائة يورو التي أحتفظ بها من مصر، فقد آن أوانها لفعل اللازم. رتّبت أغراضي الشخصية واتفقت مع الشباب أن نخرج سويًا إلى الطريق، ثم نصل إلى مركز مدينة نابولي لاحقًا.

في جانب مرتبط بالموضوع، شرح المترجم تفاصيل متى وأين وكيف نخرج للوصول إلى مركز نابولي، ومن ثم الاستمرار بالقطار نحو الشمال، سواء إلى روما أو ميلان أو غيرها من المدن الإيطالية.

بالفعل، هدأت التظاهرات، وخرجنا إلى الشارع العام قبل الظهر. كانت تلك المرة الأولى التي نخرج فيها بدون رجال شرطة أو موظفين أو مشرفين أو مراقبين، وكأننا تحررنا من سجن ضيق بعد سنوات طويلة من القسوة والجفاف.


انتظرنا في أقرب موقف باص بالقرب من المعسكر، ولأنه كان يوم السبت، فالمواصلات من وإلى مدينة نابولي مجانية. وبعد دقائق ركبنا الحافلة المحلية، وبعد نحو ثلث ساعة تقريبًا نزلنا في نابولي المدينة بالقرب من إحدى محطات مترو الأنفاق.

هدفنا بالطبع الوصول إلى محطة قطارات نابولي الكبيرة، لكن علينا أولًا شراء تذكرة مترو بقيمة يورو واحد كي نتمكن من الوصول إلى المحطة. لاحظنا المباني القديمة والمقاهي الصغيرة التي تزين شوارع نابولي وتضفي عليها جوًّا خاصًّا من الأصالة والحياة اليومية.

انتظرنا على الرصيف لحظات، ثم استقلينا القطار المحلي. وبعد محطات قليلة، وصلنا إلى محطة نابولي المركزية. لقد كانت محطة عملاقة، وكأنها تحكي قصصًا عن عظمة هذه المدينة وقوتها.

وجدت هناك بعض الشباب الذين أعرفهم وكانوا معي في الرحلة، فقالوا لي إن أسعار التذاكر مرتفعة حتى ميلانو بسبب بعد المسافة، وأن السعر معقول حتى روما.

ولكن ما الفائدة؟ فإذا أخذت القطار حتى روما، فسأضطر من هناك أيضًا لشراء تذكرة أخرى حتى ميلانو، والسعر سيكون متقاربًا. لذا فضّلت شراء تذكرة مباشرة حتى ميلانو.

بمساعدة شاب مغربي، دفعت ثمن التذكرة التي بلغت ثلاثًا وستين يورو، وأعطيته يوروَين كعمولة. بقي معي خمس وثلاثون يورو فقط. علماً بأن حجز التذاكر يتم آليًا عبر ماكينات مخصصة لذلك.

كانت مواعيد الرحلة على ما يبدو في المساء، حوالي السابعة أو التاسعة، ولا أستطيع تذكر الوقت بدقة. لذا، كان عليّ الانتظار حتى المساء، بينما كان الوقت حينها لا يزال ظهرًا.

في تلك الظروف، وجدت أنه من الضروري أن أشتري بطاقة جوال (شريحة). ساعدني أحد الأفارقة في شراء شريحة (لايكا) الشهيرة، وقمت بتفعيل خدمة الإنترنت عليها بتكلفة عشرة يورو.

تبقى معي خمس وعشرون يورو فقط، لكن الأمر لم يكن سيئًا، إذ إنني أملك تذكرة قطار إلى ميلانو وشريحة اتصال بخدمة إنترنت مفعلة مع حزمة بيانات تبلغ واحد جيجابايت. في ظل هذه الظروف الصعبة، كان هذا الوضع مقبولًا ومعقولًا.

الجو شديد الحرارة والرطوبة مرتفعة، إذ كنا في ذروة الصيف في جنوب إيطاليا ذات المناخ المتوسطي، كأننا في إحدى المدن العربية المطلة على البحر.

أثناء وجودي هناك، أديتُ بعض الفروض في مسجد يقع بالقرب من المحطة المركزية. وفي محاولة مني للتواصل مع العالم الخارجي، زرت مقهى للإنترنت مرتين، حيث نجحت أخيرًا في التحدث مجددًا مع أهلي وأصدقائي.

تناولت وجبة الغداء في أحد المطاعم القريبة من المحطة، إذ كانت مواعيد الرحلة إلى ميلانو مساءً. احتفظت ببعض الطعام داخل حقيبتي لتناوله أثناء الرحلة في القطار، حيث لا توجد فرصة لشراء طعام آخر. بعد ذلك، تجولت قليلاً في سوق نابولي القريب من المحطة.

السوق لم يكن مرتبًا أو منظمًا بشكل جيد، خصوصًا ممراته وأزقته الضيقة. كان يعج بالباعة المتجولين، معظمهم من غرب إفريقيا إلى جانب بعض العرب والآسيويين والأوروبيين.

رغم ذلك، كان السوق واسعًا وضخمًا ومليئًا بكل ما قد تحتاجه أو حتى لا ترغب به. أتذكر أنني اشتريت حزامًا من أحد الأفارقة بعد أن تضرر حزامي القديم في البحر.

غادرت مدينة نابولي، المدينة التي تكتظ بالأجانب، مساء السبت 11 يوليو 2015م، الموافق 24 رمضان 1436هـ. في الوقت المحدد، صعدت إلى القطار برفقة مجموعة من الشباب من مدينة كسلا بشرق السودان وإريتريا.

أذكر منهم الرفيق سعيد آدم، الذي يعيش الآن في ألمانيا بعدما ترك سويسرا، وعبد الرحمن أبو ريماس المقيم في السويد، ومحمد نور الذي استقر في إحدى الدول الإسكندنافية، بالإضافة إلى عدد من الشباب الرائعين.

في القمرة التي كنت فيها بالقطار الأنيق، لم يكن معي أحد، فتمددت قليلاً ونمت بعد أن اجتاز مفتش التذاكر المكان. وبفضل سلامة موقفي، تنفست الصعداء؛ فاهتمام المفتش كان منصبًا فقط على التذكرة وسريانها، وليس على الأوراق الرسمية.

إيطاليا بلد رائع بكل المقاييس، تجمع بين الأناقة والحضارة والتاريخ، مع أن شمالها يتميز برقي وجمال يفوق الجنوب. ومن خلال نافذة القطار، انقلبت أمامي مشاهد ساحرة طوال الرحلة حتى وصلتُ إلى ميلانو في صباح اليوم التالي.

ميلانو مدينة الموضة والرياضة والمال 

كما هو مدوَّن في التذكرة، كان الوصول إلى مدينة ميلانو في صباح يوم الأحد 12 يوليو 2015م، الموافق 25 رمضان 1436هـ، عند الساعة السابعة صباحًا.

غادرنا محطة القطارات الداخلية، إذ هناك فرق بين محطة ميلانو الداخلية التي تربط المدينة ببقية مدن إيطاليا، ومحطة ميلانو الكبرى التي تربطها ببقية الدول الأوروبية.

التقطت بعض الصور التذكارية في ميلانو، كما فعلت سابقًا في نابولي، وكما سأفعل لاحقًا في بقية المدن الإيطالية والأوروبية. ثم سرنا على أقدامنا حتى محطة ميلانو الكبرى للقطارات الأوروبية، لنتدبر أمرنا وأحوالنا.

ميلانو مدينة في غاية الجمال والتنظيم، تجمع بين الحدائق والمساحات الخضراء الواسعة والمباني الحديثة ذات الطراز العصري، إلى جانب مبانٍ كلاسيكية عريقة. كما تعج المدينة بأناس من شتى الجنسيات والأعراق، ما يجعل الحديث عنها ممتعًا ومليئًا بالتفاصيل.

في ميلانو كان علينا البحث عن شارع يُعرف باسم "شارع الحبش" أو "الحبوش"، وهو اسم مجازي أُطلق عليه بسبب كثرة المحلات والمطاعم التابعة للجالية الإثيوبية هناك، إلى جانب محلات أخرى للسودانيين والإريتريين. الوصول إلى هذا الشارع كان أمرًا ضروريًا لاستلام التحويلات المالية القادمة من خارج إيطاليا.

عثرنا بالقرب من المحطة الكبرى على بعض الشباب الذين أرشدونا إلى شارع "الحبوش"، ولم يكن بعيدًا عن مكاننا. وبعد قليل، التحق بنا صديقنا محمد الإريتري، الذي كان يعرف هذا الشارع جيدًا من زيارة سابقة، فاصطحبنا إليه.

هناك التقيت برفيقي الصول محمد آدم، الذي كان يسعى لإيجاد شخص يرافقه في رحلته إلى مدينتي تورينو وجنوة، ثم إلى فنتيميليا على الحدود، ومن هناك العبور إلى بلاد الغال (فرنسا).

قلت له أن يصبر قليلًا حتى أحصل على بعض المال، فما معي لا يكفي لشيء. وأصرَّ عليَّ بأنه سيتكفَّل بكل شيء حتى نصل إلى الحدود معًا، فشكرته بدوري، وأصررتُ على تدبير بعض المال، فالظروف غير مضمونة.

اتصلتُ بإبن عمتي في النرويج طالبًا مساعدته في تحويل مبلغٍ مالي كنت في أمسّ الحاجة إليه. وكعادته لم يتأخر، لكن بقي عليّ إيجاد شخص يملك أوراقًا رسمية ليتم التحويل باسمه فورًا.

زرت محلًا يملكه سودانيون في شارع الحبش، إلا أنهم لم يعطوني جوابًا شافيًا، وأصبح الموضوع معلقًا حينما أوضحت لهم حاجتي لشخص يحمل أوراقًا ثبوتية. كل هذا يتم مقابل عمولة، وهم على علم بذلك ويستغلون الوضع، ولكنني يئست منهم.

أرشدني أحد الشباب إلى شخص إريتري يقوم بهذه الخدمة، يأخذ عشرة يورو عن كل مائة يورو. رغم أن العمولة بدت مرتفعة نوعًا ما، وافقت على مضض، فشيء كهذا أفضل من لا شيء.

قبل ذلك بقليل، كنت مصرًا على تذوق البيتزا في بلدها الأم، ووافق رفيقي دون تردد. كان المطعم يملكه مغربي. جلسنا هناك نستمتع بالنكهات الأصيلة، وسط أجواء ميلانو الحيوية التي لمست قلب المدينة وروحها.


بعد نصف ساعة، أرسل قريبي مبلغ مائتين وسبعة يورو باسم الإريتري، وكان الرقم السري بحوزتي، ولن أعطيه له إلا داخل مكاتب ويسترن يونيون حفاظًا على الأمان، إذ إنني لا أعرفه شخصيًا، مهما كان أمينًا أو موثوقًا به.

في النهاية، صرف المبلغ، واستلم عشرين يورو عمولة، وأعطاني مائة وسبعًا وثمانين يورو، أضفت إليها بعض اليوروهات القليلة التي كانت في جيبي، فكان المجموع حوالي مائتي يورو.

بعد استلام الحوالة المالية، توجهت مع رفيقي إلى المحطة الكبرى للقطارات، لكن بعد التدقيق والبحث، وقبل أن نقوم بأي خطوة قد نندم عليها لاحقًا، علمنا أن السلطات المحلية قد فرضت رقابة مشددة على القطارات المتجهة من المحطة المركزية نحو المدن الإيطالية والأوروبية.

يمكن للمهاجرين من هناك التوجه إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا والنمسا، لكن حكومات هذه الدول غالبًا ما تعيدهم إلى إيطاليا أو تأخذ بصمات أصابعهم إذا كانوا من أصحاب الحظ السيء.

لذلك، يلجأ المهاجرون إلى استخدام عدة طرق للتهريب لمغادرة إيطاليا، مثل السيارات الخاصة والحافلات السفرية وغيرها. وغالبًا ما تكون هذه الطرق محفوفة بالمخاطر، لكنها تبقى الخيار الوحيد المتاح أمامهم للهروب من القيود والبحث عن دول أخرى.

تلك الأيام، كانت الرقابة مشددة أيضًا على المهاجرين الذين يرغبون في الوصول مباشرة إلى مدينة فنتيميليا الحدودية، لذلك قررنا حجز تذكرتين إلى مدينة تورينو. اخترنا هذه الخطة لتجنب المراقبة الصارمة، ولعلنا نجد طريقًا أسهل نحو وجهتنا المنشودة.

مرة أخرى، حصلنا على مساعدة من شاب مغربي يجيد الإيطالية، الذي اقتنى لنا التذاكر مقابل عمولة بسيطة اتفقنا عليها. أخبرنا أنه يعرف مغربيًا يستطيع مساعدتنا في دخول فرنسا من فنتيميليا، فبادلنا الأرقام على أمل أن نحصل على دعمه.

القطار بدوره لن يتحرك إلا عصر ذلك اليوم، ونحن ما زلنا في منتصف النهار، فالتزمنا مقاعد الصبر على ذلك، فلا خيار آخر لدينا، والعصر لناظره قريب.

تجولنا قليلاً في هذه المدينة الجميلة لقتل الوقت، خصوصاً بين المعالم القريبة من المحطة المركزية الكبرى. صادفنا بعض الأصدقاء الذين فارقناهم في كاتانيا قبل أيام.

لفت انتباهي وجود صنابير مياه شرب نظيفة في الشوارع والحدائق العامة في معظم المدن الإيطالية، وهو أمر نادر أن نراه في كثير من دول أوروبا الأخرى.

تورينو المدينة الصناعية

حطّت أقدامنا على رصيف القطار المتجه إلى تورينو في الوقت المضبوط، ودخلنا القطار دون تردد. تستغرق الرحلة حوالي ثلاث ساعات، إن لم تكن الذاكرة تخونني.

في بداية الرحلة وقعنا في خطأ غير متوقع؛ إذ اخترنا الجلوس في عربة الدرجة الممتازة بدلًا من أماكننا المخصصة في الدرجة الإقتصادية. هذا الخطأ كلّفنا دفع رسوم إضافية لمفتش التذاكر أثناء سير القطار.

في مساء الأحد، الثاني عشر من يوليو عام 2015، وبعد رحلة تخللتها بضع محطات، حطّ بنا القطار في تورينو قبل أن يُرخي الغروب ستائره بساعة. غادرنا المحطة الرائعة، التي تُشع بالحداثة والجمال، لنستكشف محيطها المدهش في جولة قصيرة.


بمساعدة سيدة، حجزنا تذاكرنا إلى مدينة جنوة، حيث تتم عملية الحجز عبر ماكينات إلكترونية. ثم انتظرنا لفترة قصيرة على الرصيف المخصص للقطارات.

مرة أخرى، ارتكبنا خطأ غير مقصود؛ فقد صعدنا مسرعين بلا مبرر إلى قطار لم يقطع سوى ثلاثة كيلومترات حتى توقف في محطة صغيرة تابعة لمحطة تورينو الرئيسية.

هناك غمرنا شعور بالضيق والغيظ والملل، بل وحتى اللامبالاة، إذ فقدنا ثمن التذاكر، فيما غادر القطار المتجه إلى جنوة في اللحظة نفسها تقريبًا، ولم يفصل بينه وبين قطارنا سوى دقائق قليلة.

خرجنا من تلك المحطة الصغيرة إلى الخارج بحثًا عن وسيلة تُمكّننا من الوصول إلى مدينة جنوة. كان أول ما نحتاجه شخص يتحدث العربية، وقد راودنا الأمل أن نصادف أحد السودانيين ليساعدنا.

التقينا بشابين صوماليين، وكان أحدهما يتكلم العربية الفصحى ببعض الصعوبة. أخبرانا عن رجل سوداني يعيش في شارع قريب منا، فقررنا الذهاب إليه أملاً في أن يرشدنا إلى الطريق.

ظل الحظ العاثر يلازمنا، فلم نستطع إيجاد السوداني الذي دلّانا عليه، لا في المحال القريبة ولا في الشوارع المحيطة، رغم أننا بحثنا عنه لمدة ليست بالقليلة.

بالقرب منا، وجدت ساحة واسعة حيث نُصبت موائد إفطار أعدها الإيطاليون للمسلمين، تعبيرًا عن روح الأخوة والتضامن. مع اقتراب أذان المغرب، غادرنا المكان دون أن نبقى طويلًا.

أردتُ أن أستقل مع رفيقي سيارة أجرة إلى مدينة فنتيميليا، فطلب السائق الأول منا ثلاثمائة يورو، ورفض الثاني ذلك بسبب المسافة ووقت الليل، بينما طالب الثالث بمبلغ كبير كذلك.

وجدنا أنفسنا في موقف لا يحسد عليه وورطة حقيقية؛ فالليل يوشك أن يحلّ، ولا مكان نبيت فيه. ينتظرنا مشوار طويل لنصل جنوة أولاً ثم فنتيميليا. فأين المخرج وما الحل؟

اقترحت على رفيقي أن نعود إلى تلك المحطة الصغيرة، ونحاول اللحاق بأي قطار يتجه إلى المحطة الرئيسية، ومنها ننطلق إلى مدينة جنوة.

هذه المرة عقدنا العزم على ألا ندفع شيئًا مهما كانت العواقب؛ فالتفتيش على القطارات في إيطاليا وفرنسا نادر، خاصة في الرحلات الداخلية بين المدن، أما القطارات الدولية فالوضع مختلف تمامًا.

لحسن حظنا، صعدنا إلى القطار بعد دقائق قليلة، ووجدنا شابًا عاجيًا تبادلنا معه أطراف الحديث بالإنجليزية البسيطة، وروينا له ما حدث لنا وما نريد فعله. قال لنا إننا محظوظان لأن هذا القطار متجه إلى مدينة جنوة بالتحديد، ولا توجد رقابة عليه في هذا التوقيت.

أخيرًا، تحركنا نحو مدينة جنوة بلا تذاكر، وكأن القدر منحنا تعويضًا عما دفعناه. فرحتنا غمرتنا، وكان القطار يكاد يخلو من الركاب.

جنوة الساحلية أنيقة الشمال

وصلنا إلى جنوة مساء يوم الأحد 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ، بعد معاناة طويلة ومشقة كبيرة، وذلك إثر توقف القطار في بعض المحطات الواقعة بين مدينتي تورينو وجنوة (جينوفا). ولحسن حظنا كان هذا آخر قطار ينطلق إلى هناك في ذلك اليوم.

خرجنا من محطة جنوة الجميلة والعريقة نبحث عن مكان نبيت فيه، وكان علينا قبل ذلك أن نجد وسيلة ما لتناول وجبة عشاء، إذ إن القطارات المتجهة إلى مدينة فنتيميليا لن تنطلق إلا في صباح اليوم التالي.

في الخارج، وجدنا شابين تونسيين في مطعم قريب من المحطة، فتبادلنا معهما أطراف الحديث، وأرشدنا أحدهما إلى مسجد قريب يمكننا المبيت فيه حتى وقت صلاة الفجر.

وبالفعل، اتبعنا الوصف ووصلنا إلى المسجد، فوجدنا بابه مفتوحًا، وكان يقع في الطابق السفلي لأحد المباني السكنية داخل حي قريب من المحطة.

أدّينا ما فاتنا من الصلوات، ووجدنا في المسجد الكثير من الفواكه والعصائر والحلوى والفطائر والمياه المعدنية، فتناولنا منها ما يسدّ جوعنا، ثم واصلنا النوم، إذ لم تُقم في تلك الليلة صلاة التهجّد.

عند صلاة الفجر، جاء إمام المسجد والمؤذن، ولما علما بأمرنا تركانا وشأننا بعد أن قدّما لنا بعض النصائح. كان الإمام مغربيّ الأصل، أما المؤذن فمن غرب إفريقيا، ونصحانا بمغادرة المسجد مباشرة بعد شروق الشمس، وهو ما كنا نريده بالفعل.

في صباح اليوم التالي، اكتشفنا في قبو المسجد حمّامات للاستحمام بجوار دورات المياه، فاستحممتُ بماء دافئ للمرة الثانية فقط منذ وصولي إلى إيطاليا.

بعدها خرجت مع صديقي إلى محطة القطارات، والتقطنا بعض الصور التذكارية في الشوارع القريبة، فهذه المدن تسحرك بجمالها وتجذبك إليها.


في المحطة، التقينا برفيقنا الآخر أحمد كولا، وكان قد أُعيد من فرنسا قبل ساعات قليلة، إذ وصل إلى مشارف باريس بعد أن تمكن من شراء تذكرة من ميلانو إلى العاصمة الفرنسية.

لكنه أُعيد بسبب عدم امتلاكه أوراقًا ثبوتية كحالنا نحن المهاجرين. فعاد إلى ميلانو، ومن هناك استقل قطارًا إلى جنوة، وكان ينوي التوجه إلى فنتيميليا الحدودية مثلنا، فأصبحنا ثلاثة بعد أن كنا اثنين.

انتظرنا ساعتين حتى موعد القطار، فخرجنا نتجول قرب المحطة بعد شراء التذاكر، وتناولنا الإفطار في مطعم قريب، ثم عدنا إلى المحطة قبل نصف ساعة من انطلاق القطار.

بينما كنا في محطة القطارات، طلب منا رجال الشرطة إبراز أوراقنا الثبوتية. شرحنا لهم أننا مهاجرون ومعنا تذاكر رسمية، فاستوعبوا أننا متجهون إلى فرنسا عبر الحدود وتركوا لنا الحرية في متابعة طريقنا.

وصل القطار في الوقت المحدد، وركبنا نحن الثلاثة، حيث جلسنا على مقاعده المريحة والفخمة. انطلق بنا بعدها نحو مدينة فنتيميليا، تلك الجوهرة الجميلة على شاطئ بحر ليغوريا.

فنتيميليا فاتنة البحر الليغوري

إن كنت ترغب في الاستمتاع بسحر السفر وروعة الطبيعة الخلابة، وبعبق التاريخ وروح المكان، وبكل ما هو جميل وجذاب، فما عليك سوى اقتناء تذكرة قطار من جنوة في أقصى شمال غرب إيطاليا إلى مدينة فنتيميليا. هذا على الأقل ما عشته أنا شخصياً.

مهما تحدثت ووصفت، وسبرت أغوار المدن والبلدات والسهول والمراعي والبحيرات، وساحل البحر الليغوري المتفرع من البحر الأبيض المتوسط في أقصى الشمال، وعن تناغم خطوط السكك الحديدية التي تمر بين البحر والجبال والمدن، فلن أتمكن من الوصف حقًا، وسأكون قد ظلمتهم كثيرًا بقلمي إن لم أستطع التعبير عن جمالهم.

هناك فقط فهمت لماذا أسعار تذاكر القطارات في أوروبا أغلى من أسعار الطيران. الإجابة بسيطة، وهي أن السفر في ثقافة الأوروبيين سياحة وترفيه واستجمام ومتعة، وأنا أتفق معهم في ذلك وأحب السفر بالقطارات لهذه الأسباب. هذه الفوائد أيضًا ذكرها الإمام الشافعي:

تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى و... ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج همٍّ، وإكتساب مــعيشة وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
فإن قـيل في الأسفار ذُلٌّ ومحنـة وقطع الفيافي وإرتكاب الشدائد
فـموت الـفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واشٍ وحـاسد

بعد كل تلك المناظر الطبيعية الآسرة، توقفت عجلات القطار بانسيابية وهدوء في محطة صغيرة على أطراف مدينة فنتيميليا الجميلة، التي استقبلتنا بكل حفاوة وترحاب.

تُعَدّ مدينة فنتيميليا أقرب المدن الإيطالية إلى فرنسا، إذ لا تبعد سوى سبعة كيلومترات عن الحدود. وتضم محطة قطارات نشطة تستقبل المسافرين بين البلدين بأجواء من الترحاب والود. كما تُعتبر نقطة الانطلاق الشهيرة نحو "ريفييرا دي فيوري"، أحد أبهى سواحل الشمال الغربي الإيطالي.

وصلنا إلى مدينة فنتيميليا صباح يوم الإثنين 13 يوليو 2015م، الموافق 26 رمضان 1436هـ. كانت تلك المحطة آخر محطة لنا قبل أن نعبر الحدود إلى فرنسا الجميلة والمبهرة. لكن تمهّل، فالمغامرة الحقيقية كانت بانتظارنا!


من حسن حظنا، أن هذه المدينة الساحلية الصغيرة احتضنت معسكرين مفتوحين للمهاجرين: أحدهما يقع قرب محطة القطار وتديره منظمة الصليب الأحمر، والآخر على مقربة من الحدود الفرنسية ويشرف عليه الحزب الشيوعي الإيطالي.

نحن فضّلنا المعسكر القريب من المحطة، ولكن ينبغي عليك أولًا تسجيل اسمك لدى موظفي المعسكر ومسؤوليه، لتحصل على ورقة صغيرة تحمل شعار منظمة الصليب الأحمر وختمها، تتضمن بعض البيانات الأساسية.

هذه الورقة تتيح لك الدخول إلى المعسكر والخروج منه متى شئت، لكن عليك ألا تتأخر عن الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، لأنهم بعد هذا الوقت لن يسمحوا لك بالدخول، وسيتوجب عليك تدبّر أمرك حينها.

كان المعسكر ينبض بالحياة والنشاط، يكتظ بالمهاجرين من مختلف الجنسيات. وكان يوفّر لهم وجبتين يوميتين منتظمتين، بالإضافة إلى حمامات نظيفة ومجهزة جيدًا، وأسرة مريحة للراحة، مع أماكن مخصصة لشحن الهواتف ومغاسل للاستخدام اليومي.

أما أجمل ما في الأمر فهو ذلك الهدوء النسبي الذي يخيم على المكان، إذ لا يزعجك أحد، والشرطة تؤمّن المعسكر على مدار الساعة. باختصار، كان معسكرًا مثاليًا، ووجوده في ذلك الوقت كان أمرًا حيويًا لا غنى عنه بالنسبة لنا.

خرجنا نحن الثلاثة في جولة قصيرة داخل تلك المدينة الساحلية الخلابة، واتجهنا صوب الشاطئ الذهبي الذي كان يعج بالسائحين من إيطاليا وبقية دول أوروبا، متناثرين هنا وهناك يستمتعون بنسيم البحر ودفء الشمس.

التقطنا بعض الصور التذكارية، ثم استرحنا في مقهى مطل على الكورنيش، واحتسينا القهوة الإيطالية الشهيرة بمذاقها الفريد.

في الجهة غير البعيدة من المدينة، وعلى مقربة من الحدود الفرنسية، لفتت أنظارنا جزيرة ساحرة تغمرها الخضرة، وتكسوها أشجار الصنوبر، وتحلق فوق مياهها الطيور المائية في مشهد شاعري لا يُنسى.


بالقرب من الجزيرة، ترسو بهدوء المراكب الشراعية واليخوت الصغيرة والكبيرة، والضباب ينسدل على أطرافها كوشاحٍ من الغموض. كان جمالها فائقًا، وسحرها لا يُملّ، فوقفنا طويلاً مأخوذين بروعتها.

عدنا بعدها إلى الحديقة التي تركناها خلفنا وجلسنا هناك. وبمحض الصدفة، التقى رفيقنا أحمد كولا بتونسي لا أذكر اسمه، وبمصري يُدعى الشرقاوي، كانا برفقته على القطار المتجه من ميلانو إلى باريس، لكنهم جميعًا أُعيدوا إلى ميلانو كما ذكرت سابقًا.

بعد مصافحتهم، أخبرناهم بأننا نريد الدخول إلى فرنسا عن طريق أحد المهربين، فهم يعرفون الكثير منهم، وإذا حاولنا الدخول إلى مدينتي منتون أو نيس الفرنسيتين القريبتين من فنتيميليا عن طريق القطار بمفردنا، فإن الشرطة الفرنسية سترجعنا على الأرجح إلى فنتيميليا.

حتى لو توجهنا إلى مدن أخرى غير نيس، مثل مدينتي كان أو مارسيليا أو غيرها، فغالبًا ما تعيدنا السلطات، فتضيع جهودنا سدى، وقليل فقط من ينجح في عبور الحدود بهذه الطريقة.

ومن هناك يمكننا الاستفادة من القطار المتجه إلى باريس، الذي يستغرق حوالي تسع ساعات. لذا، من الأفضل أن نوفر الوقت والجهد ونتجه مباشرة إلى باريس من هنا قبل حلول العيد.

العبور غير القانوني من إيطاليا إلى فرنسا يحتاج إلى تمويل مناسب، والمال المتوفر لدي لا يغطي ذلك بسبب مصاريف التذاكر التي تكبدتها منذ انطلاق رحلتي من ميلانو إلى فنتيميليا. لذلك لجأت إلى أقاربي في بريطانيا لطلب التحويل المالي بأسرع وقت، وكانوا عند حسن ظني ولم يتأخروا.

بعد بحث طويل، وجدنا شخصًا مغربيًا يحمل وثائق ثبوتية رسمية، يتولى استلام المبالغ المحوَّلة باسمه مقابل عمولة بسيطة. رافقته إلى مكتب التحويل القريب، واستلمت المبلغ، فبلغ مجموع ما معي نحو ثلاثمائة يورو.

أما باقي الشباب فقد تمكنوا من تدبير المبالغ اللازمة للسفر، لكن جميع محاولاتنا للخروج باءت بالفشل في ذلك اليوم. أجرينا عدة اتصالات مع بعض المهربين، منهم المغربي الذي حصلت على رقم هاتفه من مغربي آخر في ميلانو، إلا أنه لم يقدم لنا إجابات مقنعة، فقررنا عدم التعامل معه.

رغم أن مدينة فنتيميليا تُعتبر ملتقى للمهاجرين واللاجئين والمهربين، نظراً لموقعها الحدودي الحيوي، إلا أننا لم ننجح في عبور الحدود في محاولتنا الأولى.

ومع ذلك، لم ينتابنا اليأس، بل ظلّت ثقتنا راسخة في أننا سنتمكن من العبور عاجلاً أم آجلاً، مهما كانت الصعوبات والتحديات التي تواجهنا.

نصحنا أحد المهاجرين بالذهاب إلى المعسكر الآخر، حيث تُقدَّم مساعدات أوفر، وتُوزَّع خرائط توضح مسارات التهريب. لكنه أوضح أن تنفيذ العملية سيكون على عاتقك بالكامل إذا رغبت في دخول فرنسا.

على الأرجح، ستقف الشرطة الفرنسية عائقًا أمام تقدمك. ورغم أن كلامه بدا معقولًا إلى حد ما، لم أقتنع تمامًا وقررت البقاء في مكاني حتى اليوم التالي.

قبيل أذان المغرب، وعلى مقربة من محطة القطار، بدأت إحدى الجمعيات الخيرية في توزيع وجبات الإفطار على الصائمين وغير الصائمين على حدّ سواء.

كل شيء كان يسير بانضباط؛ فالوجبة لا تُمنح إلا لمن يصطفّ وينتظر دوره، تمامًا كما هو متّبع في أغلب مدن أوروبا.

لم يكن هذا المشهد غريبًا علينا، فقد اعتدناه سابقًا في نابولي. هناك، يعامل الجميع على قدم المساواة، وهي قيمة نفتقدها بشدة في العديد من دول العالم الثالث.

بعد أن أنهينا الإفطار، عدنا إلى المعسكر لشحن هواتفنا، والاستحمام، وأداء الفروض. بعد ذلك، حجزنا أسرّتنا استعدادًا لنيل قسط من الراحة بعد يومٍ طويلٍ ومرهق. فقد كان ينتظرنا في الغد يوم آخر لا يقل تعبًا ومشقة.

كذلك التقيتُ بمعظم رفقاء الدرب وأصدقاء الطريق، وكان كل واحدٍ منهم يروي حكايته الخاصة، وكيف اجتاز الرحلة الطويلة من كاتانيا في صقلية حتى وصل إلى فنتيميليا.

للأسف الشديد، اضطر بعضهم إلى التبصيم بالقوة على يد القوات النظامية، ومن بينهم رفيقنا عبد الله ود كسلا.

في صباح يوم الثلاثاء، الموافق 14 يوليو 2015م (27 رمضان 1436هـ)، وهو يوم مغادرتنا الذي كنا ننتظره، استيقظنا بنشاط بعد نوم عميق، رغم أن الإرهاق ما زال يثقل أجسادنا.

أما دوار البحر، فقد استمر يطاردنا؛ ففي كل مرة نستيقظ من النوم، نشعر بدوار مفاجئ يستمر لدقائق. فالبقاء أحد عشر يومًا وسط البحر ترك أثره في أجسادنا، ولا عجب في ذلك، فقد كانت تلك الأيام أشبه برحلة طويلة من التحدّي والصبر.

ذلك النشاط الذي شعرنا به صباحًا لم يكن وليد الصدفة، بل كان ثمرة العناية والاهتمام الذي أولاه لنا المسؤولون والمشرفون داخل المعسكر.

بدأنا يومنا بحمام دافئ أعاد لأجسادنا بعض حيويتها، ثم تناولنا وجبة إفطار غنية، تليق بمطبخ إيطاليا الشهير، الذي يُعد بحقّ من أرقى وألذ المطابخ في العالم.

في هذا اليوم، حصلتُ أخيرًا على ورقة رسمية باسمي، على عكس اليوم السابق، حيث دخلت المعسكر مستخدمًا ورقة لشخصٍ آخر كان قد غادر إلى فرنسا وتركها لأحد أصدقائي.

ولولا تلك الورقة، لما تمكنت من المبيت في المعسكر، إذ إن تسجيل الأسماء يُغلق في وقت مبكر، وكنا قد وصلنا متأخرين بالأمس بعد انتهاء التسجيل.

لاحظنا أن أحد المهاجرين كان يسجل أسماء الراغبين في السفر إلى باريس في ذلك اليوم، عبر شاحنة كبيرة يديرها مهربون تونسيون، مقابل مائة يورو. سجلنا أسماءنا، وكان من المقرر أن تكون المغادرة بعد الإفطار مباشرة.

لم أشعر بالارتياح لهذا الخيار، فأخبرت رفاقي بضرورة البحث عن بدائل أخرى بدل الاكتفاء بهذا الحل. وشرعنا في دراسة طرق عبورنا إلى فرنسا بعناية أكبر، محاولين تحديد الطريق الأكثر أمانًا للوصول إلى وجهتنا.

بعدها تجولنا في أرجاء المدينة الجميلة نستمتع بتفاصيلها، وعدتُ مرة أخرى إلى المقهى نفسه الذي جلستُ فيه بالأمس لأحتسي قهوتي.

ثم توقفنا في الحديقة ذاتها، حيث التقينا بالشرقاوي للمرة الثانية خلال يومين، فأخبرنا عن عربة خاصة ستصل بعد صلاة العشاء، مخصصة لثمانية أشخاص فقط، وتتجه مباشرة إلى باريس، مقابل نحو مئتين وسبعين يورو للفرد.

أوضحنا له أن المبلغ مرتفع، وبعد نقاش مطوّل اتفقنا على مئتين وعشرين يورو لكلٍّ منا، وهو مبلغ معقول إذا أخذنا في الاعتبار أننا سنسافر مباشرة إلى باريس، مع تأجيل الدفع حتى دخول بلدية باريس. ومع ذلك، أبقينا خيار المائة يورو مطروحًا ولم نستبعده تمامًا.

بعد تناولنا جزءًا من إفطار رمضان داخل المعسكر، انتقلنا لإكمال بقية الإفطار عند المحطة مع الجمعية الخيرية، حتى نكون قريبين من مناطق التهريب ونتعرّف على آخر أخبارها.

فجأةً، جاء أفراد جدد من تونس والمغرب وتشاد والجزائر ومصر وجنسيات أخرى لكسب ودّ المهاجرين، فالمال كان مغريًا للجميع.

كما قلت سابقًا، فهذه المدينة مرتع للمهربين. في البداية، ذهبنا مع المهاجرين الذين كتبوا أسمائهم صباح اليوم، وسيدفعون مائة يورو فقط.

بعد مشي دام ساعة كاملة، تجاوزنا محطة القطارات والسكك الحديدية وبعض الأحياء السكنية والطرقات، حتى وصلنا إلى غابة صغيرة تقع تحت جسر ضخم.

التقينا المهربين التونسيين الذين كان من المفترض أن يسهلوا عبورنا، لكنهم فاجأونا بتغيير شروط الاتفاق. فقد استغلوا على ما يبدو كثرة عددنا، وقرروا رفع السعر من مئة يورو إلى مئة وخمسين يورو، في خطوة غير منطقية، إذ كان من المتوقع أن ينخفض السعر أو يبقى على حاله مع زيادة عددنا.

حين أخلّ المهربون بالاتفاق، انسحب بعض المهاجرين فورًا، بينما تردّدنا نحن بين التقدم أو الرجوع. لكن الحذر غلب قرارنا، فالمهربون لا يُعتمد عليهم، خاصة بعدما خالفوا وعدهم، فاخترنا أن نذهب مع المدعو الشرقاوي.

بعد أن انتظرنا هناك نحو ساعة، ثم مشينا ساعة أخرى، عدنا إلى المحطة ونظرنا إلى المعسكر. فوجئنا بتجمع كبير من الشرطة عند البوابة، فشعرنا بالقلق.

لذا، تواصلنا على الفور مع الشرقاوي، الذي وصف لنا مكان السيارة بدقة. تسللنا بخفية إلى المكان، ووجدنا العربة في الموقع الذي حدده لنا، بالقرب من تلك الجزيرة.

في ذلك المكان، تم تجميع المهاجرين الراغبين في السفر إلى باريس مباشرة، وكان عددنا ثمانية أشخاص: اثنان من تونس، وواحد من إثيوبيا، ونحن خمسة سودانيين، حيث كنت أنا وأصدقائي أحمد كولا ومحمد آدم ومحمد إسحق، وسوداني آخر قادم من ليبيا.

استقللنا حافلة صغيرة، من طراز يُعرف بالميكروباص أو الميني باص، أُفرغت مقاعدها الخلفية لتفسح المجال للبضائع. توزعنا على المقاعد القليلة المتبقية، واتفقنا أن نسلم المبلغ للتونسيين عند وصولنا إلى باريس.

عدَدنا المبلغ أمامهم ليطمئن الجميع، ثم انطلقنا ليلاً في رحلة مرهقة إلى باريس، والتي ستستغرق حوالي عشر ساعات. بعد تجاوزنا الحدود بين إيطاليا وفرنسا، نزل أحد رفاقنا التونسيين في مدينة بجنوب فرنسا، ثم واصلنا المسير نحو العاصمة الفرنسية.

كل الجمال في باريس

توقفنا في محطة وقود للتزود بالبنزين قبل وصولنا إلى باريس بفترة وجيزة. دفع كل شخص منا عشرين يورو كدفعة أولى، على أن ندفع المائتي يورو المتبقية عند وصولنا إلى المدينة.

في صباح يوم الأربعاء، 15 يوليو 2015م، الموافق 28 رمضان 1436هـ، لاحظنا لافتات تؤكد أننا قد وصلنا إلى ضواحي باريس. نزلنا بالقرب من إحدى محطّات مترو الأنفاق المتّصلة مباشرة بمحطة غار دو ليون الكبرى وسط المدينة.

اشتريتُ تذكرة المترو بمبلغ سبعة يوروهات، بسبب بُعد المسافة بين المحطة التي نزلنا فيها ووسط باريس. اتفقنا على أن نجلس اثنين اثنين داخل كل عربة مترو.

جلستُ مع رفيقي محمد آدم، بينما جلس أحمد كولا إلى جانب محمد يعقوب في عربة أخرى. أما بقية الرفاق، فكانوا موزعين على مقصورات متفرقة، ولم نلتقِ بهم مجددًا إلا عند وصولنا إلى المحطة الأخيرة.

وصلنا إلى محطة غار دي ليون الواقعة في قلب باريس، بعد رحلة استغرقت أكثر من ساعة بسبب كثرة المحطات التي توقف فيها القطار. فور نزولنا، استفسرنا عن شارع لا شابيل أو "اللبش" كما يسمونه السودانيون.

شارع لا شابيل يقع في وسط العاصمة، قريب من محطة غار دي نورد، وهو شارع معروف بكونه ملتقى للجالية السودانية، ومن المؤكد أننا سنمر به في طريقنا عاجلًا أم آجلًا.

هناك أشخاص في لا شابيل لا بد أن ألتقي بهم، منهم العم سيف الفقير الذي لديه مطعم شهير يُدعى سنتر الخرطوم. وهو من أبناء مدينة أرقو القريبة من مسقط رأسي، مدينة كرمة في شمال السودان، ومن معارف والدي أيضًا (عليه الرحمة). يعرفه كل السودانيين في فرنسا، وليس في باريس فقط.

إلى جانب رحلتنا، كنت أبحث عن ابن عمي بخيت أحمد، المقيم في باريس منذ ما يزيد على خمس سنوات، على حد علمي. تاهت خطواتنا نحن الأربعة وسط محطات المترو ومشاهد باريس الكلاسيكية، حتى التقينا شبابًا تونسيين أرشدونا إلى شارع لا شابيل، فبلغناه بعد عناء طويل.

منطقة لا شابيل تذكّرك بمنطقة "السوق العربي" في قلب الخرطوم، حيث تنتشر المطاعم والمتاجر السودانية والمسجد الكبير، مما يجعلها تجمعًا هامًا للسودانيين. لذلك، إذا أردت لقاء أي سوداني أو إريتري أو إثيوبي أو تشادي في باريس، فلابد أن تتوجه إلى هناك.

على أطراف شارع لا شابيل، وُجد معسكر خارجي مفتوح تابع لإحدى المنظمات الدولية، حيث رُصّت مراتب النوم فوق الأرصفة. كما أُقيمت خيمة مكشوفة من الأعلى لتوزيع المواد الغذائية والمشروبات على المهاجرين مجانًا.

وجدت هناك معظم الشباب والرفاق الذين فارقتهم في مدن إيطاليا المختلفة، كما تمكنت من مقابلة العم سيف الفقير، الذي اتصل بدوره بقريبي بخيت. بدوره استضافني في مسكنه الصغير لمدة إحدى عشرة يومًا.

في نفس اليوم ذهبنا مع الجميع إلى حديقة كبيرة مجاورة لشارع لا شابيل وتقع بعد خطوط السكك الحديدية، حيث مكان الإفطار الجماعي لمجموعة كبيرة من المسلمين والتي أعددت وجهزت من قبل منظمات وجمعيات خيرية في باريس.

بعد الإفطار مباشرة، التقيت قريبي بخيت، وكان برفقته صديقه مجاهد، وهو من أبناء ولاية الجزيرة بالسودان. رافقتهما إلى مسكنهما في حي غريبالدي الشعبي، مستغلين قطارات مترو الأنفاق.

هناك التقيت بشباب رائعين، وأذكر منهم الإخوة عمر برونتو، والمعز بوب، وعبد السلام، ويوسف، ومصعب، وغيرهم. استقبلوني استقبالاً جيدًا رغم ضيق المكان، فالمسكن بدون إيجار.

في اليوم التالي لوصولي إلى باريس، كان يوم وقفة العيد وتوديع شهر رمضان. أصر أحد أصدقاء قريبي بخيت أن نفطر معه في حي قريب، فذهبنا وقضينا معه وقتًا ممتعًا. هناك، سمعنا خبر إعلان عيد الفطر ليوم الغد في فرنسا ومعظم الدول تقريبًا.

لا أخفيكم سرًا أنني كنت بحاجة إلى بعض الراحة في باريس لأستعد للسفر إلى مدينة كاليه أو كاليس في شمال فرنسا، والتي نسميها نحن السودانيون بـ (الكلاكلة). كان هدفي الأساسي هو الدخول إلى بريطانيا وليس البقاء في فرنسا.

خلال هذه الفترة، جمعت بعض المعلومات الخاصة بقضيتي، وتجولت في باريس برفقة الأصدقاء والأقرباء، إذ لا يمكن أن أكون في هذه المدينة دون أن أستمتع بجمال معالمها الشهيرة.

أول أيام عيد الفطر في باريس، كما في معظم دول العالم، كان يوم الجمعة الموافق 17 يوليو 2015م، والذي يوافق الأول من شوال 1436هـ. وكان العيد في باريس بمثابة عيدين.

وجدناها فرصة جيدة للتجول والتنزه والتمتع بمعالم باريس الجميلة والمشهورة والتاريخية. ذهبت برفقة بخيت ومجاهد للاستمتاع بالوقت، ولم نترك أي معلم من معالم باريس مثل برج إيفل وقصر الشانزليزيه ونهر السين ومقر شركة أير فرانس وغيرهم. في باريس، ستعرف عبق الزمان وقيمة المكان.

في أيام العيد تلك، ولحسن حظي، حلّ قريبي وصديقي نواف خميس من دبلن، عاصمة إيرلندا، برفقة أسرته في إجازة قصيرة. استمتعنا معًا بجولات سياحية في حي الفنانين والرسامين بوسط باريس، وزرنا كنيسة مونتمارت التاريخية التي تقع على مرتفع يُطلّ على كامل المدينة الجميلة.


وعدته بزيارته في منطقة (لا ديفانس) الاقتصادية الشهيرة، لكن لسوء حظي هذه المرة، لم أتمكن من الالتقاء به لأسباب متعلقة بالاتصال والإنترنت، واضطررت للتجول بمفردي، وأخذ بعض الصور التذكارية، والتفكير والتأمل في قوة هذه المنطقة الاقتصادية وجمال مبانيها، فهي قلب باريس النابض.

تُجسد باريس مثالًا حيًا على المدن المتروبوليتانية التي تستمر في النمو بلا انقطاع، فهي تجمع بين إرثها التاريخي العريق وروعة حاضرها الزاهر، وتوجه أنظارها بثبات نحو مستقبل مشرق.

تتميز هذه المدينة الرائعة بتوافر الخدمات الإنسانية والأساسية بشكل دائم ومتجدد، وتضم شبكة مواصلات ممتازة ومتنوعة ذات جودة عالية، ويُعد استخدام وسائل النقل فيها شبه مجاني في أغلب الأحيان.

باريس ليست مجرد مدينة؛ إنها مركز ثقافي وفكري وعلمي وتقني ورياضي، وهي عاصمة الأزياء النسائية والعطور والإكسسوارات، كما تُعرف بعاصمة الأنوار. لا تكفي ملايين الكلمات لوصفها، ففخامة اسمها وحدها تروي الكثير.

بعد مضي أكثر من عشرة أيام من الراحة التي كنت بأمسّ الحاجة إليها، تمكنت من جمع بعض المال والمعلومات المتعلقة بوضعي المستقبلي.

من جانبي، لا يسعني إلا أن أعبّر عن امتناني العميق لبعض الأصدقاء والأقرباء الذين ساندوني بفكرهم ووقتهم ومالهم، والمنتشرين في دول أوروبا المختلفة، فلهم مني خالص التقدير والامتنان.

كاليه ملتقى المهاجرين العالمي

اضطررت إلى التوجه نحو مدينة كاليه (Calais)، أو كما تُعرف أحيانًا بكاليس، الواقعة في شمال فرنسا، وذلك في ظهيرة يوم الأحد 26 يوليو 2015م، الموافق 10 شوال 1436هـ.

بسبب حركة المهاجرين الكثيفة والرقابة الأمنية المشددة على القطارات المتجهة إليها، اخترتُ التوجه إلى مدينة بولون القريبة، لتجنب أي مشاكل مع السلطات.

مثلما هو مألوف في القطارات الأوروبية، انطلق القطار من محطة "غار دو نورد" شمال باريس بدقة متناهية، متجهًا صوب الشمال. المحطة كبيرة ومزدحمة بالحركة، وتقع بالقرب من حي لا شابيل. لقد قررت بلا تردد أن أسافر بمفردي، بلا رفيق، وليكن ما يكون.

لحسن حظي، تعرفت على شاب سوداني يتردد كثيرًا بين باريس وكاليه، حيث يتابع ملفه هناك بسبب سهولة الإجراءات. بعد تعارفنا، بدأ يروي لي الكثير من التفاصيل المثيرة عن معسكر كاليه، والصعوبات التي تواجهه، بالإضافة إلى طرق السفر من هناك إلى بريطانيا العظمى.

أثناء الرحلة، وقبل أن نصل إلى محطة بولون بعد عدة محطات، اضطررنا إلى تغيير القطار لأسباب غير واضحة لدينا، ربما بسبب عطل فني. وفي النهاية، وصلنا إلى محطة بولون.

انتظرنا قطار كاليه التالي، وبعد عدة دقائق جاء القطار وركبنا بدون تذاكر هذه المرة، ولم تكن هناك مراقبة تُذكر على القطار من قبل مفتشي التذاكر (الكونترول). وبعد فترة زمنية قصيرة وصلنا إلى المحطة الأخيرة (كاليه).

ما يميز دول أوروبا كلها هو أنهم لا يتركون الأرض سهواً أو بوراً بلا رعاية، بل يحولونها إلى أراضٍ زراعية غاية في الجمال والتنظيم، تنمو فيها مختلف المحاصيل الزراعية من خضروات وفواكه.

كما يحرصون على إنشاء مزارع خاصة لتربية المواشي والدواجن والأحصنة وحتى الخنازير. والحديث عن الريف الأوروبي ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو تجسيد حي لجنان الله على الأرض، يتجلّى في مناظر الريف المبهر.

كاليه مدينة متوسطة الحجم، رائعة وساحلية، وأهم ما يميزها أن نفق المانش الذي أنشئ تحت الماء يبدأ منها نحو بريطانيا، والعكس كذلك. بها محطة قطارات ضخمة تنقل البضائع والمركبات والركاب من فرنسا إلى بريطانيا والعكس أيضًا، وتختلف هذه المحطة عن محطات القطارات الداخلية العادية.

تضم المدينة ميناءً تجاريًا كبيرًا وآخر متوسط الحجم، بالإضافة إلى بعض المصانع مثل مصانع البيرة والمواد البلاستيكية والكيماويات. وتكثر فيها أعداد المهاجرين، ويُقال إنها كانت تابعة لبريطانيا في الماضي. كما غزاها الفوهرر الألماني أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية.

فور خروجنا من المحطة الداخلية للقطارات، القريبة من مركز المدينة، لاحظنا مبنى البلدية الذي يطلق عليه المهاجرون عن طريق الخطأ اسم "الكنيسة"، وهناك حديقة مجاورة له.

بالقرب من الحديقة، كان هناك كشك صغير تديره سيدة فرنسية، عبارة عن مطعم للوجبات السريعة.

تناولتُ الغداء هناك مع رفيقي، ثم توجهنا نحو معسكر كاليه، الذي يحتاج إلى المشي حوالي ساعة للوصول إليه.

طوال الطريق، واجهنا العديد من المهاجرين ذهابًا وإيابًا من وإلى المعسكر. وعندما وصلنا إلى متجر (ليدل) الشهير للمواد الغذائية والتموينية، الواقع قرب محطة الوقود، هطلت أمطار غزيرة لم نُعرها أي اهتمام، فهذه المدينة معتادة على المطر، وتتميز برطوبة عالية وبرد قارس وضباب كثيف. استمتعنا بحمام مجاني، وبعد توقف المطر، واصلنا السير نحو المعسكر.


داخل أكبر معسكر للمهاجرين في العالم

منذ الوهلة الأولى لدخولي إلى المعسكر في طرف مدينة كاليه، عرفت أنني سأعيش أيامًا صعبة للغاية قبل الدخول إلى بريطانيا. هذا المعسكر، الذي أُسس في عام 1999م، تم إزالته نهائيًا في الأعوام التالية، ولم يتبقَ في كاليه حالياً بصورة عامة سوى بعض التجمعات المتناثرة للمهاجرين هنا وهناك.

المعسكر الواسع، تنتشر الخيام العادية في كل مكان، وتواجهك الأوساخ والمياه الراكدة والروائح الكريهة منذ لحظة دخولك من تحت ذلك الجسر الشهير الذي يؤدي إلى الميناء.

أول ما لاحظته عند الدخول هو الخيام الخاصة بالمهاجرين من دولة إثيوبيا، وبعد خيام الإثيوبيين تجد ممرًا عاديًا يفصل بين المخيمات. هناك متاجر خاصة بالأفغان، ولديهم مطاعم وجلسات للقهوة وأندية مشاهدة، مجهزة بالأخشاب والمفارش. وخيامهم تقع على يمين خيام الإثيوبيين.

أما على يسار خيام الإثيوبيين مباشرةً، فتجد خيام العراقيين والأكراد والبدون من الكويت، وعلى يسارهم وأمامهم تقع خيام السودانيين الذين يشكلون الغالبية.

يليهم المصريون المقيمون بالقرب من معسكر (جول فيرن) المسور، المخصص للطعام والشراب والاستحمام وغسل الملابس وشحن الجوالات، وممارسة الألعاب مثل كرة القدم والكرة الطائرة، ويُعرف باسم معسكر (السلام).

وفي طرف الشارع، توجد الخيمة السودانية الكبيرة، وهي خيمة ضخمة تستوعب كل من لا يملك خيمة صغيرة أو خاصة.

أما في مناطق متفرقة من المعسكر، فتنتشر خيام هنا وهناك لعدة أجناس من السودان وإريتريا والصومال وإثيوبيا وكردستان وإيران وسوريا والعراق ومصر والشيشان وكوسوفو وألبانيا وغيرهم.

إنه عالم صغير مجتمع في مكان واحد، ويبلغ عدد اللاجئين في كل الأحوال ما لا يقل عن ثلاثة آلاف لاجئ ومهاجر.

يُسمى المعسكر بـ (الجِنقل)، أي الغابة، لأنه يقع أساسًا في منطقة غابات ومياه، وتوجد مخيمات صغيرة أخرى في غابات ملحقة به. ويتميز المعسكر بالرطوبة العالية جدًا، وتسقط فيه الأمطار كثيرًا طوال العام، وبرده شديد، وضبابه كثيف.

تجد دورات المياه الخشبية والبلاستيكية في كل ركن، وغالبًا لا تكون نظيفة بسبب سوء الاستخدام. مياه الشرب متوفرة من خلال حنفيات (صنابير) موزعة في ثلاث مناطق تقريبًا، وهناك منطقة صغيرة خصصت للمساعدات الطبية للمرضى، وما أكثرهم.

توجد مساجد صغيرة أُعدّت وجهّزت بالأخشاب، إلى جانب كنيسة صغيرة وبعض البارات والمراقص والبقالات والمقاهي وأماكن الشحن. وعادةً ما تحدث مشاكل كثيرة ومتكررة، خاصة بين السودانيين والأفغان من جهة.

وكذلك بين المصريين والأكراد من جهة أخرى. والأمر الغريب أن الشرطة لا تتدخل أبدًا في مشاكل المهاجرين، بل تكتفي بالتفرج عليهم، بل ويقومون بتصوير ذلك حتى من خلال المروحيات.

عادةً ما يفتح معسكر السلام الداخلي (جول فيرن)، وليس معسكر الجنقل الخارجي، أبوابه في الصيف من الساعة التاسعة صباحًا وحتى السابعة مساءً، فيما تختلف مواعيده في الشتاء بساعتين. يشمل المعسكر عدة مهام، أبرزها توزيع نحو ثلاثمائة تذكرة يوميًا تُمنح فقط للاستحمام.

يعتمد المعسكر على نظام التذاكر المجانية التي تحدد وقت استحمام كل شخص. يوجد أكثر من ستون حمّامًا مجهّزًا، لكن الانتظار في صفوف طويلة أمر لا مفر منه، كما أن وقت الاستحمام محدود بست دقائق فقط.

كما يتم توزيع الشاي والقهوة بين الساعة العاشرة صباحًا والثانية بعد الظهر، وذلك في صفوف طويلة. وشحن الجوالات يتم أيضًا في صفوف طويلة مع ضرورة الحجز المسبق، وغسيل الملابس يتم بنفس الطريقة. عليك أن تتخيل أن المعسكر يضم أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر، مما يجعله أكبر معسكر في أوروبا.

الوجبة الأساسية والوحيدة تُوزع عند الساعة الخامسة مساءً، لذا فهي غير معروفة إذا ما كانت وجبة غداء أم عشاء، لكنها مهمة جدًا للجميع بلا استثناء.

ولا توجد وجبة إفطار، وعليك الانتظار في صف طويل تحيط به حواجز حديدية، فلا يمكنك تجاوزه حتى لا تسمع ما قد يزعجك.

تصور أن مئات، بل آلاف الأشخاص أحيانًا، يقفون أمامك، وكلهم يترقبون هذه الوجبة الوحيدة التي تبقيهم على قيد الحياة. فإذا لم تتمكن من الوصول إليها، فقد يخونك جسدك، فتخور قواك وتصبح عرضة للمرض.

بعض الأشخاص يعيدون الدور للمرة الثانية أو أكثر، وإذا تمكنت من ذلك ورجعت إلى بداية الصف، فلن يمنعك أحد، لكنك ستقضي يومك كله في الانتظار.

تتكون الوجبة من خبز فرنسي يزن مئتين وخمسين غرامًا، بالإضافة إلى فاكهة أو زبادي، وبعض قطع اللحم أو الدجاج، التي تُستبدل أحيانًا بالسجق أو الأرز.

الطعام في أوروبا عمومًا لا يُملّح أو يُتبل بشكل جيد، وغالبًا ما يكون نصف ناضج، مما يضطرنا إلى إعادة طهيه بطريقتنا الخاصة داخل خيام المعسكر.


يجد الإنسان صعوبة بالغة في الجمع بين الاستحمام، وشحن الجوال، وشرب الشاي أو القهوة، وغسل الملابس، والوقوف في صف الطعام. لذا، عليك توزيع الأيام والمهام، خاصة الاستحمام وغسل الملابس.

في هذه المنظمة كان يعمل أكثر من خمسين شخصًا كموظفين أساسيين أو متطوعين، ويوزعون المهام بينهم يوميًا، وهم من جنسيات مختلفة.

ولكن لماذا كنت مجبرًا على كل ذلك؟ ما الذي يجعلني ويجعل غيري يتحمل كل ذلك؟ بالتأكيد لأن الهدف أسمى وأكبر، ولأن أهم مدينة يمكن أن تعبر منها إلى بريطانيا العظمى هي كاليه، سواء عن طريق الميناء أو القطارات التي تحمل الشاحنات. لذا، عليّ وعليهم تحمل كل المشاق والصعاب.

مما أتذكره أثناء تواجدي في كاليه، أزالت السلطات الفرنسية أجزاء واسعة من المعسكر العشوائي القديم وأقامت مكانه معسكرًا نموذجيًا، لكن معظم المهاجرين لم يرغبوا في دخوله لأن الدخول يتم عبر البصمة.

هذا يعني أن الراغبين في البقاء في فرنسا يمكنهم المكوث فيه قبل توزيعهم على مدن أخرى، أما من يريد الدخول إلى بريطانيا أو دولة أخرى غير فرنسا فسيكتفي بالمعسكر العشوائي الخارجي.

هناك بعض المصطلحات والكلمات المتداولة في كاليه وفي معظم المدن الأوروبية بين المهاجرين، وغالبيتها من الألفاظ والكلمات السودانية التي يتحدث بها الجميع. سنشرح هذه المصطلحات في السطور التالية.

(الجنقو) مصطلح شائع بين السودانيين في أوروبا بصفة خاصة، ويقصد به المهاجر غير الشرعي الذي وصل إلى أوروبا عن طريق البحر.

(صاروخ) يدل على الشخص الجديد الذي يأتي لأول مرة، خاصة في كاليه ومدن المهاجرين المختلفة، باعتباره ما يزال نشيطًا وقويًا مثل الصاروخ. وهذا اللقب لا يفارق صاحبه ما لم يكمل شهرين أو أكثر.

(مكنة) يطلق على الشخص الذي مكث على الاقل شهرين في المنطقة، وهنالك ألقاب مشتقة منها مثل (مكنة قديمة) وهو يطلق لشخص لديه شهور كثيرة وربما أكثر من عام.

(عباس) لفظ يُطلق على رجال الشرطة العاديين، الذين يستخدمون الهراوات والغازات المسيلة للدموع لتفريق المهاجرين.

(جندي نميري) أو الجندرمي (Gendarmerie) هو لفظ يُطلق على القوات الخاصة أو قوات الدرك من رجال الشرطة. سمعتهم سيئة جدًا، ولا يرحمون ولا يتهاونون مع أحد، كما يستخدمون الهراوات والغازات المسيلة للدموع لتفريق المهاجرين.

(الكلاكلة) يُطلق هذا الاسم على مدينة كاليه نفسها، خاصةً بين السودانيين، وهو مأخوذ من اسم الحي المعروف والكبير في جنوب الخرطوم.

(سكيورتي) يُطلق على رجل أمن خاص يعمل في المحطة الكبرى للقطارات والموانئ في كاليه، وتكون صلاحياته أقل من صلاحيات رجال الشرطة.

(الإنقليز) هو لفظ خاص يستخدمه المهاجرون المقيمون في فرنسا عند الحديث عن الأشخاص الذين يرغبون في الدخول إلى بريطانيا. على سبيل المثال، يُقال لهم بالعامية: "إنت خاشي الإنقليز؟" أو "إنت داير الإنجليز؟"

(التفجيرة) يُستخدم في عبارة مثل "فلان فجرها"، وهي جملة شائعة تُقال يوميًا عندما يتمكن شخص من الدخول إلى بريطانيا بنجاح عبر الميناء أو القطارات أو أي وسيلة أخرى، بمعنى أن فلان قد عبر ودخل بريطانيا.

(الدُقار) من أكثر المصطلحات استخدامًا، وتُقال عند حدوث أزمة مرور وتكدس للشاحنات قبل تفتيشها بواسطة الماسحة الضوئية الضخمة (الإسكنر) أو جهاز التنفس أو عبر الكلاب البوليسية، سواء في الميناء أو في محطة القطارات.

قد تجد حرفيًا آلاف الشاحنات على الطريق العام وعلى مد البصر، تنتظر دورها ببطء شديد للدخول إلى الميناء أو قطارات الشحن، وأحيانًا يستمر هذا الدُقار لأيام.

(الشانس) تعني "الفرصة" بالإنجليزية، وهو مصطلح يُطلق على كل محاولة دخول إلى الميناء أو محطة القطارات الكبيرة. وقد تكون محظوظًا فيسمح لك رجال الشرطة بالمرور ويمنحونك فرصة (شانس) للعبور إلى بريطانيا.

(الكبْة) هي كلمة مشهورة جداً ومرتبطة عندما تأتي بعض الجمعيات والمنظمات الدولية وبعض الخيرين لتوزيع أشياء ومستلزمات مختلفة للمهاجرين مثل الأطعمة والمشروبات والملابس والأحذية والخيم والأخشاب وأدوات الطبخ وحتى الدراجات وخلافها، وهم ينشطون أيام الجمعة والسبت والأحد.

(الحنة) هو الشخص الذي أُخذت منه بصمات الأصابع (بصمة دبلن للاجئين) باستخدام القوة أو بمحض إرادته في فرنسا أو أي دولة أخرى، كما لو أنه خضّب أصابعه بالحنة.

(العَشَرَة) هو مصطلح يُطلق على الشخص الذي قدّم ملفه في فرنسا وحصل على الإقامة الدائمة لمدة عشر سنوات.

(الحُفرة) تعني أن يقوم المهاجر بفتح عدة ملفات (أي أن يكون لديه عدة حفر) في عدة مدن ودول أوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، للاستفادة ماديًا، ولكن عليه حرق بصماته العشرة في كل مرة. وهي عملية مقززة صراحةً ومضيعة للوقت، حاليًا إنتهت هذه الظاهرة.

(الخرابة) هي منطقة كانت موجودة قبل عام 2015م شرق محطة القطارات الداخلية في كاليه، وكانت منطقة لا بأس بها وأفضل من المعسكر الحالي، لكن المهاجرين تركوها بعد فتح معسكر الجنقل.

قبل معسكر الجنقل، توجد غابة قريبة منه وبجوار مصنعي الدخان والبيرة في شارع المعسكر نفسه. كانت هذه الغابة معقلاً للمهاجرين، لكن تم إجلاؤهم وترحيلهم جميعًا، كما قُطعت جميع الأشجار فيها بعد عدة مشاكل. وسمعنا أن أحد الإرتريين قد قُتل فيها طعنًا.


بعيدًا عن قاموس المصطلحات الخاصة، هناك أماكن يعرفها المهاجرون في كاليه، مثل منظمة (الكاثوليك) التي تقدم المساعدات القانونية لأصحاب البصمة الذين فتحوا ملفاتهم في كاليه، وكذلك مكتب (الأوفي) الذي يساعد اللاجئين الذين شرعوا في فتح ملفاتهم في كاليه.

(بيت المحامية) هي سيدة فرنسية تمتلك شقة أرضية صغيرة في وسط المدينة، تديرها كمتطوعة، ويوجد بها حمامات ووجبات خفيفة، وشاي وقهوة، وإمكانية شحن الجوال مجانًا ولكن لساعات قليلة.

وهناك كنيسة خاصة لتوزيع الملابس والأحذية وبعض المستلزمات الأخرى في أيام وأوقات محددة أسبوعيًا، عبر تذاكر توزع في معسكر السلام.

هنالك موقف يُعرف باسم موقف الإستاد، يُستخدم لركوب الشاحنات خلسة. كما توجد حنفية تُسمى مجازًا بـ (الشقشاقة)، وهي حنفية عادية لمياه الشرب الصالحة، تقع بالقرب من إحدى الترع المتصلة بالبحر، كان يشرب منها المهاجرون. لكن، وكما هو معتاد، وبعد سوء الاستخدام من بعضهم، تم إغلاقها.

كيفية الدخول إلى بريطانيا من كاليه

أُشَدِّد دائمًا على أن دخول بريطانيا أصبح أمرًا عسيرًا منذ عام 2015. لذلك، يلجأ البعض إلى طرق عديدة للوصول إليها، أبرزها دفع المال للمهربين المنتشرين في كاليه والمدن المجاورة لها، مثل: هازبروك، هازبيرغ، سانت أومير، بولون، ودانكيرك.

يفتح المهرّبون أبواب الشاحنات ويدخلونك إليها، ثم يتركون الأمر للحظ. قد تنجح من المحاولة الأولى، أو الثانية، وربما بعد العديد من المحاولات. من الجدير بالذكر أنك لست ملزمًا بالدفع في كل مرة تفشل فيها، بل يمكنك الاستمرار في المحاولة حتى تصل إلى هدفك.

عادةً ما تعبر الشاحنات من موانئ دانكيرك، بولون، أو كاليه، أو من ميناء صغير يُدعى كا. كما يمكن نقلها على متن القطارات التي تمر عبر نفق المانش، الذي يبلغ طوله خمسين كيلومترًا تقريبًا (ما يعادل حوالي واحد وثلاثين ميلًا).

هناك أيضًا طريقة تعتمد على استغلال حالات ازدحام السير أو تكدّس المركبات، وتُعرف أحيانًا باسم "الدقار"، حيث يقوم أحد أصدقائك بمساعدتك على التسلل إلى داخل شاحنة، ثم يُغلق عليك الباب كما تم الاتفاق مسبقًا.

قد تنجح هذه الطريقة من المحاولة الأولى، وقد تفشل. ويمكن تنفيذها في الطرق العامة، أو في مواقف الشاحنات داخل المدن، أو بالقرب من الموانئ ومحطات القطارات الكبرى.

كذلك، هناك طريقة تُعرف بـ"ضربة الباصات السفرية"، حيث يوجد مهربون يعرفون المركبات والحافلات التي تعبر من فرنسا إلى بريطانيا.

تحت هذه المركبات، تحديدًا أسفل هيكل الشاسيه، توجد فجوة كبيرة على شكل مربع حديدي تُسمى "الضربة"، وقد تكون محظوظًا فتصادف الدخول من خلالها إلى بريطانيا.

من الطرق الشائعة أيضًا ما يُعرف باسم "الدِنقِل"، وهي طريقة تشبه إلى حد كبير ضربة الباصات، غير أن "الدِنقِل" يقتصر وجوده على الشاحنات وبعض القطارات فقط.

هناك أيضًا خيار التهريب عبر مهرب خاص يمتلك عربة مُعدّة لهذا الغرض، يمكنه استخدامها لمحاولة إدخالك إلى بريطانيا. لكن هذه الطريقة نادرًا ما تنجح، وتُعد باهظة الثمن، إذ تتراوح تكلفتها بين ألف يورو وعشرة آلاف يورو.

كانت هناك طريقة شائعة في عام 2015م تتمثل في محاولة الصعود بنفسك على قطارات الشحن، ولكنها توقفت تمامًا الآن. تلك الطريقة تنطوي على مواجهة مصاعب كثيرة قد تكون مميتة في بعض الأحيان.

هذه الطريقة في المحاولات الفردية هي التي جعلتني أنتظر في كاليه قرابة شهرين ونصف. اخترت هذه الطريقة لأنها كانت مجانية وتعتمد على جهدي الخاص، ولأن العديد من أصدقائي نجحوا في الوصول إلى بريطانيا عن طريقها.

كواليس كاليس

بعد وصولي إلى المعسكر وفي ذات اليوم، وبعد توقف الأمطار وشعوري بالإرهاق، قررت أن أؤجل بداية المحاولات إلى اليوم التالي. وبما أنني لم أمتلك خيمة خاصة بي، توجهت إلى الخيمة السودانية، معبرًا عن امتناني العميق لرفيقي.

التقيت بأصدقائي مرة أخرى في الخيمة السودانية، وهم علي آدم، حسين عبد الله، الشبلي عبد الله، آدم أبو طويلة، وغيرهم. شكّلنا مجموعة صغيرة، وكان كل منا يشارك الآخر قصص ما مر به في رحلته حتى الوصول إلى كاليه، حيث كان الهدف واحدًا وواضحًا للجميع.

في صباح اليوم التالي، توجهنا إلى مكتب (الأوداس) لسحب ورقة (الأدرس) أو العنوان، والتي تساعدنا على البقاء في مأمن من رجال الشرطة، كأننا نفتح ملفاتنا في كاليه بناءً على الأدرس الذي بحوزتنا والذي يحتوي على بياناتنا الشخصية. ولكن، كان هذا مجرد إجراء شكلي يهدف إلى كسب الوقت والحماية فقط.

وجدنا هناك شبابًا آخرين قد فتحوا ملفاتهم في كاليه فعلًا، وليس مجرد إجراء شكلي، بعد أن فشلوا في الوصول إلى بريطانيا وملّوا المحاولة. وهذا يعني أنهم قرروا الاستقرار في فرنسا.

قد ينتظر الشخص عدة أشهر بعد فتح ملفه في كاليه، ثم يُحوَّل إلى مدينة أخرى ويتم تسكينه في سكنات (الفويا) أو (الكادا)، إلى أن ينتقل في النهاية إلى منزله الخاص. ولكن لا يتم نقله إلى منزله إلا بعد حصوله على الإقامة في فرنسا.

بعد إتمام الإجراءات، كان علينا أن نمشي لأكثر من ساعة لنصل إلى محطة قطارات كاليه الكبرى، القريبة من نفق المانش. المسافة من معسكر كاليه إلى هذه المحطة، التي يُطلق عليها المهاجرون اسم "الترين"، تستغرق أكثر من ساعتين، ويقع مكتب الأوداس تقريبًا في منتصف الطريق.

طالما أن الزمن المستغرق مشيًا من المعسكر حتى محطة القطارات العابرة للنفق ساعتان على الأقل، فهذا يعني أننا سنهدر تقريبًا خمس ساعات يوميًا فقط في الذهاب والإياب بين معسكر كاليه ومحطة القطارات الضخمة "الترين"، وهو أمر غير منطقي في تلك الظروف القاسية.

في أول يوم من محاولاتنا الفردية، تاهنا كثيرًا وضللنا الطريق رغم محاولتنا التواصل مع مجموعة أخرى، وفقدنا الاتجاه. بعد عدة ساعات، تمكنا من اللحاق بهم لنلقي نظرة على ما يجري هناك، ولنستوعب جيدًا ما سيحدث لاحقًا، بعد أن التقينا بهم قرب مطعم كنتاكي الشهير.

عشرات بل مئات المهاجرين يريدون السفر خلسة، ومع حلول الظلام بدأنا المحاولة الأولى. الشرطة موجودة في كل مكان، وكاميرات المراقبة منتشرة حتى في الغابات المحيطة بمحطة القطارات الضخمة. وعليك أن تجتاز عدة أسلاك شائكة وخطرة، والمرور خلسة من أمام الكلاب البوليسية.

أحيانًا تضطر لعبور مياه المجاري، وحتى إن وصلت إلى أرصفة القطارات التي تزيد عن عشرة، عليك أن تختبئ جيدًا وتختار القطار المتجه إلى بريطانيا وليس العكس. لكن مع وجود المئات من المهاجرين معك، يصبح أمركم مكشوفًا أو معرضًا للكشف في الغالب. قد يستغرق الأمر أكثر من ثلاث ساعات لعبور سلك شائك واحد فقط، وقد تنتهي الرحلة بجروح خطيرة وتمزق كل ملابسك.

في الحقيقة، نجح الكثيرون في ذلك، أما أنا ومعي كثيرون فكان يتم إرجاعنا في كل مرة، والقبض علينا، وإخراجنا من داخل القطارات المحملة بالشاحنات عبر الكلاب البوليسية.

عبر عربات الشرطة، كانوا يأخذوننا إلى أماكن بعيدة. في حال أخبرتهم بأنك إريتري، يتركونك تذهب، أما إذا ذكرت جنسية أخرى، فقد تخضع للاستجواب أو حتى السجن، خاصة إن كنت سودانيًا.

أتذكر جيدًا كيف أن المهاجر عبد الرحمن هارون قد تصدر عناوين الصحف ووسائل الإعلام العالمية، وخاصة البريطانية والفرنسية، في أغسطس عام 2015.

كان ذلك عندما عبر نفق المانش ركضاً، وهو أمر غير منطقي وخيالي؛ فالنفق يبلغ طوله حوالي 51 كيلومترًا، وقد بُني تحت قاع بحر المانش ليربط مدينة كاليه الفرنسية بمدينة فولكستون البريطانية القريبة من ميناء دوفر.

أما ميناء دوفر البريطاني فهو يربط ميناء كاليه الفرنسي مباشرةً، وليس عبر النفق كما يظن البعض.

بسبب طريقة دخوله الجنونية، توقفت حركة القطارات في نفق المانش ليوم كامل. يُعتبر عبد الرحمن هارون أول شخص ينجح في عبور هذا النفق المظلم والضخم، المليء بالأسلاك الكهربائية ذات الضغط العالي، وقد كاد أن يفقد حياته أثناء المحاولة. وصفته وسائل الإعلام العالمية بأنه "عبور مذهل".

في تلك المحطة الضخمة، يتهوّر البعض محاولين الصعود على القطارات التي تبطئ سرعتها بالقرب من المحطة أو بعد توقفها لأكثر من عشرين ثانية، حيث يجذبهم القطار بقوته كالمغناطيس.

وللأسف، فقد عدد من المهاجرين حياتهم، بينما أصيب آخرون بجروح وكسور متفاوتة بين الخطيرة والمتوسطة والخفيفة. مع مرور الوقت، ازدادت أعداد الأسلاك الشائكة والطويلة لمنعنا من تكرار هذه المحاولات.

توجد بالقرب من المحطة المذكورة العديد من الشوارع والجسور والأماكن الملتفة حولها وداخلها. أطلق عليها السودانيون أسماء مختلفة لم تأتِ من فراغ، وسنوضحها في السطور التالية.

يُعدّ "شارع الحصين" من أشهر الشوارع، وهو يقع غرب المحطة. يمتاز هذا الشارع بأنه طويل جدًا ومليء بالأسلاك الشائكة الكثيفة. بين الأسلاك الشائكة التي تفصل عن محطة القطارات، توجد مزارع وبيوت قريبة. سُمي الشارع بهذا الاسم لوجود "الحصين" في مزارع مكشوفة للعيان.

لا زلت أذكر جيدًا أن محاولتي الأولى كانت في هذا الشارع، وتمكنت في ذلك اليوم من الوصول إلى محطة القطارات، إلا أن الأمر لم يحقق ما كنت أرجوه.

يقع "شارع المراوح" شرق المحطة مباشرة، ويشتهر بوجود ثلاث مراوح هوائية كبيرة، ومن هنا جاء اسمه. كما يحيط به عدة أسلاك شائكة، وتمر فيه غابات تم تقطيعها جزئيًا بسبب نشاط المهاجرين في المنطقة.

نجد كذلك "شارع البحيرات"، والذي يقع غرب شارع المراوح، وسُمي بهذا الاسم لوجود بحيرتين صغيرتين تكثر فيهما طيور البط، والأوز، والبجع.

بينما "شارع البيوت الفرنسية"، الذي يُعرف أيضًا باسم "شارع الموية"، يقع بين شارع البحيرات وشارع الحصين. سُمي بهذا الاسم بسبب وجود البيوت الفرنسية ذات الطراز المميز على جانبيه بشكل لافت للنظر.

"شارع القمح" نجده في أطراف الشوارع المذكورة، وتحديدًا في أقصى الشمال والغرب من المحطة الضخمة، وسُمي بهذا الاسم لكثرة مزارع القمح فيه.

كما نجد كذلك "شارع بلجيك" في تلك المنطقة، ولكن لا يوجد سبب واضح لتسميته بهذا الاسم. ربما لأنه يمر من خلاله العديد من السيارات القادمة من بريطانيا، على الرغم من أن معظمها لا يتجه إلى بلجيكا.

"كبري عباس" هو جسر يتواجد عليه كثير من أفراد الشرطة، ويقع بين شارع البحيرات وشارع البيوت الفرنسية. المرور عبر هذا الجسر خلسة يُعد فرصة كبيرة للوصول إلى القطارات.

أما "كبري عيش الريف" فهو يقع في شارع الحصين الشهير، وبجانبه مزارع الذرة الشامية التي أكرمتنا كثيرًا. هذا الجسر متصل بمحطة القطارات، ولهذا السبب يخضع لرقابة مشددة.

"كبري النفق" هو الجسر الأخير قبل دخول نفق المانش الشهير. تنتشر الشرطة فيه بشكل مكثف، وأحيانًا يكون هناك تواجد للجيش الفرنسي، نظرًا للأهمية الكبيرة التي يحظى بها هذا النفق بالنسبة للدولة الفرنسية.

"منطقة عربات الصيانة" هي مساحة واسعة تقع بين شارع الحصين ومحطة القطارات الأساسية، حيث تُجرى الصيانة الدورية للقطارات. وهناك، ترى أعدادًا كبيرة من القطارات متواجدة باستمرار.

"منطقة القطارات الخارجية" هي منطقة مخصصة للقطارات التي لا تتحرك مباشرة إلى بريطانيا، وتكون محملة بالبضائع والمواد الخام والثقيلة، على عكس قطارات الشاحنات التي تحمل الشاحنات والمركبات فقط على متنها. تقع هذه المنطقة بين شارع الحصين ومنطقة الصيانة.

"قسم البوليس" هو منشأة تقع بالقرب من المحطة الضخمة في كاليه، وتشمل قسم شرطة وسجنًا صغيرًا، ولكن نادرًا ما يُحتجز المهاجرون هناك.

"التفتيشان الفرنسي والإنجليزي" هما نقطتا تفتيش تقعان بالقرب من المحطة، تُستخدمان لفحص الشاحنات التي ستُحمّل لاحقًا على القطارات.

تمر الشاحنات أولًا بعمليات التفتيش الفرنسية، ثم التفتيش الإنجليزي، قبل أن تدخل إلى النفق أو تُحمّل على متن تلك القطارات الضخمة المخصصة لنقل الشاحنات.

أيام وليالي في كاليه

مع تزايد حوادث القتل والإصابات وتكدس المهاجرين في المحطة، اندلعت مظاهرات تطالب بفتح الحدود في كاليه، وانتشرت وسائل الإعلام المختلفة لتغطية الوضع.

بعدها، أصبح تدفق المهاجرين إلى بريطانيا بأعداد كبيرة مصدر قلق لدى البريطانيين، بينما كان الفرنسيون أقل اهتمامًا، حيث غالبًا ما تتساهل الشرطة الفرنسية في الرقابة معتقدة أنها لن تخسر شيئًا حتى لو تمكن جميع المهاجرين من الدخول. وهكذا تمكن كثيرون من الدخول، رغم أن موعدنا لم يحن بعد، ولم نيأس من تحقيق ذلك.

اتفقنا أنا وأصدقائي على النوم في العراء إذا دعت الحاجة، أو في الغابات القريبة من المحطة، وهذا ما حدث بالفعل. كنا نقيم بالقرب من متجر "ليدر برايز" الشهير للمواد الغذائية، على البلاط الخارجي للمحل، مستخدمين أغطية بسيطة أو حقائب النوم.

كنا نأكل المعلبات مع بعض الأرغفة الفرنسية التي نحملها معنا، وأحيانًا نشعل نارًا بسيطة لطهي المعكرونة أو الأرز، أو لإعادة تسخين المعلبات.

وصلتني أخبار بعد فترة تفيد بأن هذا المتجر الكبير أُغلق من قبل السلطات بسبب التكدس الشديد للمهاجرين حوله، وبعد تقديم أصحاب المتجر شكاوى بشأن الوضع.

من جانب آخر، أشارت بعض التقارير إلى أن فرنسا وبريطانيا ربما توصلا إلى اتفاق لإغلاق معسكر كاليه ومعظم المعسكرات المشابهة في شمال فرنسا خلال السنوات القادمة، على أن يتم توزيع المهاجرين على وحدات ومجمعات سكنية تمولها بريطانيا بنسبة كبيرة. ولا شك أن هناك العديد من الاتفاقات التي تمت ولا تزال تجري بين البلدين، وستستمر في المستقبل.

رغم أن الهجرة والدخول إلى المملكة المتحدة لن تتوقف أو تنتهي أبدًا، إلا أنها ستصبح أمرًا شبه مستحيل. كثير من الإجراءات تظل مجرد أوراق، وقد تُطبق حرفيًا، لكن الواقع الآن أكثر تعقيدًا من ذي قبل.

بعد مرور سنوات، لجأ المهاجرون إلى عبور بحر الشمال عبر المراكب المطاطية كوسيلة للوصول إلى بريطانيا، مما دفع السلطات في لندن إلى إصدار المزيد من الإجراءات الصارمة لكبح موجة الهجرة.

بالعودة إلى الواقع، كانت هناك بحيرة صغيرة بالقرب منا مُعدة للطيور المائية والاستجمام، لكننا رأيناها فرصة لغسل ملابسنا وأمور أخرى.

كنا نذهب إلى معسكر السلام مرة واحدة في الأسبوع للاستحمام، وغسل الملابس، وشحن هواتفنا. وأحيانًا كنا نستقل حافلات المدينة إلى المحطة القريبة من المعسكر مقابل يورو واحد.

كان من الضروري الانضمام إلى مجموعة نشطة من الشباب في كاليه لأسباب متعددة. تشكلت مجموعتنا من عدة رفاق، منهم الإريتري عطا، مجاهد صالح، إسماعيل يعقوب، النذير سنار، عبد المجيد محمد، عبد القادر ميرغني، عصام تقابو، منصور آدم، مدثر، ماجد أشواك، عمر ود المناقل، بالإضافة إلى التونسي زياد وحسن ود سنار وغيرهم. ومعظم هؤلاء يتواجدون الآن في بريطانيا.

تعرضت لإصابة في كاحلي في بداية وصولي إلى كاليه، وذلك بعد أن قفزت بقوة وهبطت بشكل خاطئ أثناء محاولة عبور الأسلاك الشائكة. بسبب هذه الإصابة، قضيت حوالي أسبوع كامل في الخيمة السودانية بالمخيم قبل أن أعود إلى الغابة وأستأنف محاولاتي من جديد.

كانت أيّامنا عبارة عن مسافات طويلة من المشي، ننام خلالها على الجسور، ونواجه عنف الشرطة من ضرب وطرد وغازات مسيلة للدموع. إضافة إلى ذلك، كنا نعاني من قلة النوم والطعام والشراب والمال، ونادراً ما كانت لنا فرصة للاستحمام، ربما مرة في الأسبوع.

بالإضافة إلى الضباب الكثيف الذي يصل إلى درجة انعدام الرؤية، والرطوبة العالية، والأمطار الغزيرة، والبرد القارس الذي استمر لمدة شهرين ونصف، كان كل ذلك يهون طالما أننا سنعبر إلى بريطانيا.

دخل معظم رفاقي بريطانيا الواحد تلو الآخر، بينما فضل بعضهم البقاء في فرنسا ونسي فكرة السفر إلى بريطانيا. بالرغم من محاولاتنا المستميتة والكثيفة ومساعدة بعضنا البعض، لم يحن بعد موعد دخولنا إلى بريطانيا.


أذكر جيدًا أنه في إحدى المرات ركبت (دنقل) شاحنة، وهو مكان يوجد فوق الإطارات الخلفية مباشرةً مع الشاسيه، وكان ذلك عن طريق الخطأ أثناء وجودي داخل القطارات. وكان معي شاب من السودان يُدعى بشير.

لسوء الحظ، لم تكن الشاحنة التي ركبناها متجهة إلى بريطانيا، بل كانت قادمة منها. لم تتوقف بنا إلا بعد أن قطعنا مسافة خمسين كيلومترًا، وتحديدًا عند مدخل مدينة آراس. كانت النتيجة أن ملابسنا وأجسامنا قد تلطخت تمامًا بالزيوت والشحوم والأوساخ.

كان لزامًا علينا العودة إلى كاليه، التي تبعد نحو خمسين كيلومترًا تقريبًا. بعد أن مشينا خمسة كيلومترات، فوجئنا بقدوم قوات خاصة (جندي نميري)، وخشينا أن يتم استجوابنا أو إيذاؤنا، لكنهم أوصلونا لمسافة خمسة كيلومترات إضافية لأننا كنا نسير على طريق سريع.

بعد ذلك، أكملنا السير لمسافة خمسة كيلومترات أخرى تحت أمطار غزيرة وبرد ورطوبة شديدين. كنا نحاول استيقاف السيارات، لكن محاولاتنا باءت بالفشل؛ لكن لا حياة لمن تنادي.

لن يمحو الزمن من ذاكرتي ما فعله ذلك الفرنسي الذي يدعى وليم. فقد أخذنا في سيارته الخاصة ليوصلنا إلى معسكر كاليه، قاطعًا مسافة خمسة وثلاثين كيلومترًا.

الغريب أنه فعل ذلك على الرغم من أن اتجاه سيره كان عكس اتجاهنا، بل إنه لم يكتفِ بذلك، فقدم لنا عشرة يوروهات وخبزًا ساخنًا، لأن حالتنا كانت يرثى لها. وخلال الطريق، تذكرت أنه قال لي إنه سافر من قبل إلى شمال أفريقيا.

بعد أسابيع من المحاولات المضنية، قررت التراجع عن محاولاتي للعبور عبر محطة القطارات. عدت إلى معسكر السلام (الجنقل)، وتركت الغابات القريبة من المحطة، وكذلك المنطقة المحاذية لمتجر "ليدر برايس" ومحطة الوقود.

كان من الضروري أن أبدأ مجددًا بجمع المال، إذ أدركت أن عملية التهريب تتطلب على الأقل خمسمئة يورو، بالإضافة إلى تكاليف أخرى.

أتذكر أن بعض أقربائي وأصدقائي في بريطانيا وبقية دول أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج، ساعدوني كثيرًا في جمع المبلغ المطلوب. كانوا دائمًا في الموعد، واستطعت بفضل دعمهم تجميع أكثر من خمسمائة يورو.


قضيت آخر أيامي في معسكر السلام برفقة أصدقائي: أمين عبد الوهاب، ومحمد الفاتح عبد الباري، ويوسف حبيب، بالإضافة إلى صديقي القديم إبراهيم كيلاني الذي تعرفت عليه في القاهرة.

أول أيام عيد الأضحى المبارك في كاليه كان يوم الخميس 24 سبتمبر 2015، الموافق للعاشر من ذي الحجة 1436هـ. في ذلك اليوم، أتت جمعيات خيرية ومنظمات دولية من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا لتوزيع اللحوم ومستلزماتها على الخيام، وذلك بعد أن أدينا صلاة العيد داخل مركز السلام الداخلي.

كل من ذهب إلى المحطة الكبيرة في ذلك اليوم كان محظوظًا، فقد تمكن من دخول بريطانيا. كانت هذه بمثابة "عيدية" جميلة من الشرطة الفرنسية، إلا أننا لم نكن من أصحاب الحظ السعيد لدخولها.

بعد أن أمضينا أكثر من شهرين ونصف في كاليه، قررنا أنا وأمين ويوسف وإبراهيم الذهاب إلى هازبروك، وذلك بعد أن أتممنا الترتيبات اللازمة مع المهربين. ورغم أن إبراهيم لم يتمكن من الذهاب معنا في البداية لأسباب شخصية، فإنه لحق بالرفاق بعد عدة أسابيع، وتمكن لاحقًا من الوصول إلى بريطانيا.

كان قرارنا هذا مهمًا وحاسمًا، فالأوضاع في كاليه أصبحت أكثر صرامة، والشرطة لم تعد تتهاون، إذ يُحبس كل من يُضبط بالقرب من المحطة أو الميناء. لذلك، لم يكن هناك مبرر للبقاء أو إضاعة المزيد من الوقت، فاتفقنا على الرحيل مباشرة بعد عيد الأضحى.

هازبروك - إستينفورد مدن السعد

انتقلنا من كاليه إلى مدينة هازبروك، وتحديدًا إلى بلدة إستينفورد القريبة منها في شمال فرنسا، صباح يوم الأحد 4 أكتوبر 2015م. كنا ثلاثة، يرافقنا شهاب، الملقب بـ (أندر أيج)، وهو صديق لأمين عن طريق أحد معارف ابن عمته.

كان شهاب يقيم في إستينفورد منذ عدة أشهر، ويعرف المهربين هناك، ما منحنا فرصة القبول بينهم كنوع من "الواسطة". إضافةً إلى ذلك، كان يعرف الطريق جيدًا، ولحسن حظنا أنه كان موجودًا في الجنقل بكاليه في ذلك اليوم.

تحركنا من كاليه في وقت الظهيرة، وبعد رحلة عبر عدة محطات وصلنا إلى محطة هازبروك. لكن لم يكن أمامنا خيار سوى السير ساعتين كاملتين للوصول إلى بلدة إستينفورد، إذ كانت الحافلات المتجهة إلى هناك قد غادرت قبل وصولنا.

لحسن حظنا مجددًا، كان في البلدة مهرجان ضخم وكرنفال كبير. وبعد نصف ساعة من السير، توقفت سيدة فرنسية بسيارتها وعرضت أن تقلنا، إذ كانت تعرف الكنيسة المخصصة للمهاجرين، وكانت في طريقها إلى الكرنفال نفسه. وبعد بضع دقائق وصلنا إلى الكنيسة، فشكرناها بحرارة لما وفّرته علينا من جهد ووقت.

التقينا المهربين في المبنى التابع للكنيسة (تشيرش)، وسلّم كل واحد منا خمسمائة يورو تُحتفظ بها لديهم حتى ننجح في دخول بريطانيا، دون دفع أي مبلغ إضافي إذا فشلت محاولاتهم.

تضمنت التزامات المهربين نحونا تأمين السكن والطعام والشراب، بالإضافة إلى تهريبنا بواسطة الشاحنات. وفي حال قرر أي منا استرداد ماله، كان يعاد له مبلغ لا يتجاوز مئتي يورو، لكن هذا الشرط تم إلغاؤه بعد ذلك.

أتذكر أن المهرب الذي قبض منا المال كان إريتريًا اسمه هانوك. في الواقع، كل المهربين في هازبروك والمدن المجاورة مثل هازبيرغ كانوا من إريتريا. وعلى الرغم من أن السودانيين هم من أسسوا هذا المكان في البداية.

بعد وقوع خلافات، صار إدارة المكان حكرًا على الإريتريين، ومنذ ذلك الوقت، يُسمح بالبقاء فيه فقط للقادمين من السودان أو إثيوبيا أو إريتريا أو تشاد، بغض النظر عن كونهم رجالًا أو نساءً.

سمعت لاحقًا أن المدعو هانوك استطاع دخول الولايات المتحدة الأمريكية من المكسيك عن طريق التهريب، بعد أن سافر إلى المكسيك بوثيقة سفر فرنسية، ثم أُعيد إلى فرنسا بعد أن انكشف أمره من قبل السلطات في أمريكا.

يقع المبنى الخاص بالمهربين مقابل الكنيسة الرئيسية، وهو تابع لها، لذلك يُطلق عليه اسم "تشيرش"، وهي الكلمة الإنجليزية التي تعني "كنيسة". كان هذا المبنى بمثابة مرفق متعدد الخدمات، يضم مكانًا لتناول الطعام والشراب، ودورات مياه، بالإضافة إلى توفير خدمات شحن الهواتف، وأماكن للعب ومشاهدة التلفاز.

المسؤولة عن شؤون المهاجرين هناك هي سيدة فرنسية مسنة تُدعى الآنسة مامي، وتعاونها بعض السيدات من ضمنهن الآنسة مونيكا، التي تتولى إدارة البوتيك في المبنى. يقع البوتيك في غرفة بالطابق الأرضي، وتفتح أبوابه عادةً يوم الأربعاء تقريبًا.

تولى أندريه، أحد المتطوعين، مهمة نقل المهاجرين من الكنيسة إلى المخيم الصغير المعروف باسم "الجنقل" أو الغابة الصغيرة، وأحيانًا كان ينقلهم بين محطة هازبروك وإستينفورد في الاتجاهين.

يقع هذا المخيم، الذي كنا ننام فيه، بعد الشارع الرئيسي، وكانت ظروف الحياة فيه قاسية للغاية، فكانت الرطوبة عالية والبرد شديدًا، والحياة فيه شبه مستحيلة.

كان يومي الاستحمام محددين: الإثنين والخميس، ويتم تنظيم ذلك حسب الأسماء. إذا استحم شخص في يوم الإثنين، فعليه الانتظار أسبوعًا كاملاً حتى يحين دوره مرة أخرى، ونفس الأمر ينطبق على من يستحمون يوم الخميس. كنا حوالي مائة شخص، وكان يُسمح لنحو خمسين شخصًا من الجنسين بالاستحمام في كل يوم من هذين اليومين.

تميزت الحمامات التي كنا نستخدمها بالنظافة، وكانت تقع في مبانٍ أخرى داخل نادٍ رياضي، حيث تولت الآنسة مامي التنسيق مع مسؤولي النادي. إلا أن الوضع أصبح أكثر صعوبة لاحقًا، إذ ارتفع عدد المهاجرين إلى نحو ثلاثمئة شخص من الجنسين، مما أحدث فوضى عارمة.

في النهاية، أُغلقت هذه التجمعات والمراكز الصغيرة وغيرها تدريجيًا في فرنسا، إذ تتبدل القوانين والظروف هناك باستمرار نتيجة كثرة المهاجرين والفوضى المتفشية.


كانت المباني الملحقة بالكنيسة تُفتح يوميًا في الثامنة صباحًا وتُغلق في السادسة مساءً. خلال تلك الساعات، كنا نحصل على وجبة إفطار متنوعة من الفطائر والعصائر والحلويات والمعلبات والحليب.

أما الغداء، فكان يُطهى يوميًا، وكانت تتناوب عليه مجموعات مختلفة لإعداده وتوزيعه في الرابعة عصرًا. وفي المساء، كانت الآنسة مامي تأتي إلى مخيماتنا لتوزع علينا وجبة العشاء، التي كانت تتكون من الخبز والزبادي والفواكه والحلوى والبسكويت.

أتذكر جيدًا أن مكان إقامتنا كان عبارة عن خيام تبعد حوالي كيلومترين عن المركز الرئيسي، وتقع داخل مزرعة بين بعض الشجيرات. كانت هذه الخيام رطبة باستمرار، ومختلفة الأحجام؛ فكانت هناك خيمة ضخمة كنا نُطلق عليها اسم "التايتانيك"، تسع عددًا كبيرًا من المهاجرين، وخيام أصغر لا تتسع إلا لثلاثة أو أربعة أشخاص. كنا نقيم في خيام منفصلة عن خيام الشابات.

كان هذا المكان مثاليًا للمهاجرين؛ فقد كان قريبًا من موقف الشاحنات المتجهة إلى بريطانيا. وكان بالقرب من هذا الموقف محطة وقود وسوبر ماركت. أطلق المهاجرون على هذه المنطقة كلها اسم "اللفة"، وهي مكان له قصص وحكايات لا يعلمها إلا من مر بها.

هناك 3 شانسات (أي محاولات أو فرص) يوميًا وهي:

أولًا: "شانس الموقف" أو "الباركنق"، وعادة ما يكون عند الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، حيث ينام سائقو الشاحنات في هذه المواقف ليتحركوا صباحًا باكرًا نحو ميناءي دانكيرك أو كاليه.

ما يحدث بالضبط هو أن أحد المهربين يُخرج جميع من في المخيم، ويفتح أبواب الشاحنات بعد قراءة وجهتها، لأن هناك شاحنات لا تذهب إلى بريطانيا، بل إلى دول أوروبية أخرى أو إلى داخل فرنسا. إذا وُجدت شاحنة تحمل بضاعة خفيفة، يتم إدخال أكبر عدد ممكن من المهاجرين فيها.

عندما كان السائق يكتشف وجود المهاجرين، كان يتصرف بأحد ثلاثة طرق: إما أن يُنزلهم في الصباح، أو يتصل بالشرطة. وفي حالات أخرى، كان يتركهم في الشاحنة حتى يصل إلى الميناء، حيث كان يخبر مسؤولي الأمن بوجودهم، فيقومون بإنزالهم. كانت هذه الحالات تتكرر بشكل دائم.

ثانيًا: (شانس العصر)، وفيه يقود المهرب مجموعة من المهاجرين ليختبئوا في المجرى المائي أو بين الأشجار بالقرب من منطقة اللفة. وعندما يتوقف أحد سائقي الشاحنات هناك ويغادر شاحنته لبضع دقائق، يستغل المهرب الفرصة لفتح الباب الخلفي وإدخال المهاجرين.

غالبًا لا يتوقع السائق وجود مهاجرين في شاحنته خلال تلك التوقفات القصيرة. فهو لا يتخيل أن أحدًا قد يتمكن من التسلل إلى شاحنته في هذا الوقت القصير، خاصةً أنه قد لا يعلم بوجود مخيمات للمهاجرين في تلك المنطقة.

ثالثًا: (شانس اللفة الصباحية)، ويكون في الساعة الخامسة صباحًا، وهو شبيه بشانس العصر، لكن نسبة النجاح فيه أعلى، لأن معظم الشاحنات التي تأتي في هذا التوقيت تكون وجهتها بريطانيا.

رابعًا: (الشانسات المنفردة) لبعض الشباب، وقد تنجح أحيانًا، وهي أن يتفق بعض المهاجرين مع بعضهم البعض على أن يقوم أحدهم بفتح أبواب الشاحنات، وبعد أن يتأكدوا من دخول المهاجرين إليها، يغلقونها بسرعة وإحكام. وقد تمكن بعضهم من دخول بريطانيا بهذه الطريقة.

لا توجد محاولات يوم السبت لأن يوم الأحد عطلة رسمية في أوروبا، ويوجد شانس الساعة الثانية عشر فقط يوم الجمعة تقريبًا بسبب إجازة نهاية الأسبوع. الوضع بشكل عام لم يكن أسوأ من وضع كاليه، فقد وجدنا هنا قليلًا من النظام والرعاية، والكثير من الأمل والتفاؤل.

يخاف المهربون من رجال الشرطة بشدة، والكثير منهم يقبع في السجون. وبما أن السلطات الفرنسية تملك بصماتهم، فإنهم يعملون بنظام المجموعات، حيث تتولى كل مجموعة من ثلاثة أو أربعة أفراد مهمة التهريب لمدة ثلاثة أشهر، ثم تتبادل الأدوار مع مجموعة أخرى. وبهذه الطريقة، يكسبون مبالغ هائلة من المهاجرين.

زعيمهم يُدعى سعدة، من أصول إريترية ويحمل الجنسية الفرنسية. تحت قيادته كان هناك عدد من الأفراد مثل أنقسي، هانوك، مرارو، بنيامين، دانيال، وصدام، وبعضهم يتحدث العربية بطلاقة لأنه عاش في السودان لفترة.

طوال فترة ثلاثة وعشرين يومًا، كانت رحلتنا تتميز بالصعود والنزول المتكرر من الشاحنات. كنا أحيانًا نمكث داخلها لأكثر من أربع عشرة ساعة. وعندما كنا نصل إلى ميناءي دنكيرك أو كاليه، كانت إجراءات التفتيش تفرض علينا النزول منها، لنعود بعدها بالقطار إلى هازبروك، ومنها نكمل طريقنا إلى إستينفورد.

كثيرًا ما كان السائق يجبرنا على النزول من الشاحنة في الصباح الباكر، قبل أن تبدأ رحلتها. إلا أن نجاح بعض رفاقنا المهاجرين في الوصول إلى بريطانيا بين فترة وأخرى كان يغذي فينا الأمل ويدفعنا إلى المزيد من المحاولات.

للا بد لي من ذكر بعض رفاقي الذين تمكنوا من دخول بريطانيا قبلي أو بعدي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: محمود الدقي، محمود الإريتري، ياسر دنكيرك، صابون عبد الله، بشير عمر، الطيب القديم، الطيب الجديد، وأمين عبد الوهاب، وغيرهم.


بريطانيا العظمى تفتح ذراعيها

كان لدي شعور قوي بأنني سأنجح في الوصول إلى بريطانيا يومًا ما، خاصةً من المنطقة المعروفة باسم "اللفة". هذه القناعة لم تكن مجرد أمل، بل كانت مبنية على حقائق منطقية؛ فالسائق في تلك المنطقة نادرًا ما كان يعلم بوجودنا داخل الشاحنة، إذ كان يوقفها لوقت قصير ليشتري شيئًا من المتجر أو يذهب إلى دورة المياه الملحقة به.

وبما أن معظمهم متجهون مباشرة إلى بريطانيا، كنت أتحمل البرد القارس والرطوبة العالية التي تزداد بعد الخامسة صباحًا، مع درجات حرارة تنخفض إلى ما دون الصفر.

في ذلك اليوم السعيد والبهيج والرائع، والذي انتظرته قرابة أربعة أشهر منذ دخولي أوروبا، وستة عشر عامًا منذ بدأت محاولاتي الجادة للسفر والعيش في إحدى دول العالم الأول، جاءت شاحنة بيضاء مغلقة بإحكام.

توقفت تلك الشاحنة لدقائق معدودة في محطة الوقود، وكانت تلك المدة كافية لنا، حيث نزل السائق ودخل إلى المتجر مسرعًا.

اشتدت الأمطار علينا فجأة، ونحن مجموعة من عشرة أشخاص تقريباً. اقترح المهرب هانوك أن نعود إلى المخيم ونؤجل المحاولة ليوم آخر. وعليه، كان على بعض الشباب أن يتطوعوا لإعادة الأخشاب التي كنا نجلس عليها إلى الغابة القريبة، لضمان استخدامها مرة أخرى.

أخذ الأخشاب كل من أصدقائي أمين عبد الوهاب، وود المأمون، وصابون، وآخرون، ونحن قررنا العودة إلى المخيم ومشينا قليلاً عدة خطوات.

فجأة، لمحنا الشاحنة البيضاء، وفورًا نزل منها السائق، وكانت هناك شاحنة أخرى تقف خلفها بأمتار قليلة. حينها، سألنا المهرب إن كنا نريد المجازفة بالركوب فيها أم لا، فوافقت فورًا وبدون تردد.

كان معي أثناء ركوب الشاحنة صديقي نبيل حامد، ورفيقنا الإثيوبي مسفن دنانو، الذي انتظر هذه الفرصة لمدة ثمانية أشهر هناك. قبل أن نصعد، أصريت على إحدى السيدات الإريتريات أن تجرب حظها وترافقنا، لكنها تحججت بالأمطار والتعب.

بكل سهولة، فتح المهرب هانوك باب الشاحنة، وصعدنا نحن الثلاثة سريعًا إلى داخلها. أغلق الباب بإحكام، ثم انصرف وتركنا وحدنا.

لم يمر وقت طويل حتى عاد السائق، لكن قبل أن يشغل محركه، سمعنا صوت بوق وصفارات قادمة من شاحنة أخرى كانت تقف خلفنا، فقد شاهد سائقها كل ما حدث.

مع هطول الأمطار الغزيرة، ظن سائق شاحنتنا أن السائق الآخر يريد منه أن يغادر بسرعة ليأخذ مكانه. هذا ما اعتقده في البداية، لكنه في الواقع كان يحذره من وجودنا نحن المهاجرين داخل شاحنته.

وعلى النقيض من ذلك، جاء هذا الإنذار في صالحنا تمامًا، وتحركت الشاحنة غير آبهة بشيء نحو ميناء مدينة كاليه بسرعة كبيرة. هذه المدينة التي طالما تمنيت أن أدخل عبرها، وعبر قطاراتها ونفقها إلى بريطانيا.

كانت الشاحنة محملة بسجادات صغيرة وبعض البضائع الخفيفة. دخلت الشاحنة إلى القطار المخصص لنقل الشاحنات في محطة كاليه الكبرى، والذي انطلق بعد دقائق قليلة من توقف الشاحنة عليه. سمعنا صوت عجلات القطار يزداد ارتفاعًا رويدًا رويدًا، وسرعته تتزايد ثانيةً بعد ثانية.

لا أعرف كيف أصف لكم ذلك الإحساس الجميل، الغريب، الرائع والمتعاظم عندما دخلنا نفق المانش ونحن نقترب من أراضي المملكة المتحدة. كل شريط الهجرة منذ شهور مضت، بكل معاناته وظروفه ومواقفه الصعبة، مر أمامي كـ"فلاش باك" أشبه بفيلم سينمائي.

في صباح يوم الأربعاء، 28 أكتوبر 2015م، الموافق 15 محرم 1437هـ، غادرنا فرنسا كلها عبر مدينة كاليه، ودخلنا بريطانيا العظمى حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحًا بتوقيت غرينتش الصيفي. تم إنزالنا تحديدًا في منطقة بدفورد شمال لندن.


تمنينا أن تستلمنا الشرطة البريطانية فورًا، لأن ذلك سيكون في صالحنا ومصلحتنا فيما بعد. لذا، وبعد خروج الشاحنة من القطار الواصل إلى بريطانيا، اتخذت فورًا الطريق السريع نحو وجهتها.

علمنا أنها ستسلم بضاعتها في مدينة ليدز بوسط البلاد من خلال الأوراق المطبوعة التي تحدد الوجهة (Destination)، كما هو معروف في أوساط المهربين والمهاجرين. حينها، طرقنا أبواب الشاحنة وأطرافها بقوة من الداخل، على أمل أن تتوقف.

توقفت الشاحنة بعد عدة ساعات في موقف شاحنات بمنطقة بدفورد شمال لندن، بالقرب من مطار لوتون، أحد مطارات لندن الستة. فتح باب الشاحنة شرطي عجوز برفقة شرطية شابة، ووجهوا لنا التحية قائلين: "مرحبًا بكم في يو كيه".

في الجهة المقابلة، كان السائق يقف مذهولًا، وعيناه لا تصدق ما ترى. لكن يجب أن يُذكر له أنه تصرف بحكمة بالغة عندما أبلغ الشرطة؛ فلو لم يفعل ذلك، لكان سيُتهم بالتهريب ويُسجن على الأرجح، إذ إن كاميرات المراقبة تغطي كل زاوية في المملكة المتحدة. كنت أتمنى لو أتيحت لي فرصة للاعتذار له، فهو بريء تمامًا مما حدث.

بعد مرور ربع ساعة من هناك، اقتادونا إلى مركز شرطة بدفورد. في الطريق، كانوا يسألوننا إن كنا جائعين أو عطشى أو مرضى. هناك، تم تفتيشنا في القسم، ثم حُبسنا لمدة أربع وعشرين ساعة بسبب دخولنا البلاد بطريقة غير شرعية.

أخذوا بصماتنا وأجروا معنا تحقيقًا قصيرًا. كنا في أمس الحاجة إلى مكان ننام فيه يومًا كاملاً، وكان كل منا في زنزانته الخاصة.

في الحقيقة، كان السجن أشبه بفندق خمس نجوم، وأفضل مكان للنوم بعد أن جفت ملابسنا قليلًا. خلال فترة الحبس، صادروا هواتفنا الشخصية، ووزعوا علينا وجبات سريعة ومشروبات ساخنة. استسلمنا بعدها لسلطان النوم، فالنوم سلطان.

بعد مرور أربع وعشرين ساعة من "الحبس الجميل"، أعادوا إلينا هواتفنا، ثم نُقلنا إلى معسكر مغلق قريب من مركز الشرطة في منطقة يارلز وود بلندن. يشبه هذا المعسكر الفندق، ويُسمى باللغة الإنجليزية "Detention" (أي الحجز). يمنع الخروج منه بتاتًا، ويحتوي على كل ما يحتاجه الإنسان، وكان لكل منا غرفته الخاصة. مكثنا فيه يومين ونصف.

قبل نقلنا إلى غلاسكو، المدينة الإسكتلندية الواقعة في شمال بريطانيا، خضعنا لجولة تحقيق رسمية ثانية. وفي مساء اليوم الثالث، نُقلنا نحن الثلاثة، مع ثلاثة أكراد، إلى تلك المدينة الكبيرة.

وصلنا غلاسكو في صباح يوم الأحد الموافق 1 نوفمبر 2015م، وخلال شهر كامل في غلاسكو، استضافنا المسؤولون هناك جيدًا في عدة فنادق، بلغ عددها ستة فنادق منها فنادق خمس نجوم. ثم تم تحويلي إلى مسكن مؤقت لمدة أربعة أشهر في منطقة (سبرينغ بيرن)، وواصلنا إجراءاتنا هناك خطوة بخطوة.


دخل علينا العام الجديد ونحن في غلاسكو يوم الجمعة الموافق 1 يناير 2016م. أُجريت المقابلة الكبرى مع وزارة الداخلية البريطانية يوم 2 فبراير من العام 2016م في غلاسكو نفسها، حيث استلمت الإقامة يوم 12 فبراير 2016م الموافق 4 جمادى الأولى 1437هـ.

بعد أربعة أشهر من إقامتي في البيت، تم تحويلي إلى هوستيل يقع في شارع قريت ويسترن رود Great Western Road بمنطقة ماري هيل الراقية في غلاسكو، حيث التقيت ببعض الرفاق هناك مرة أخرى.

أما هذه الهوستيلات، فهي عبارة عن مساكن ونُزل شبابية مؤقتة شبيهة بالفنادق، بعضها تتبع الحكومة وبعضها لشركات خاصة أو أفراد، إيذانًا بتسليمنا بيوتًا ومساكن تابعة للمجلس المحلي فيما بعد.

بعد قرابة السبعة أشهر منذ دخولي بريطانيا ومكوثي في غلاسكو، أكبر مدن إسكتلندا، ثم الحصول على معظم الأوراق الأساسية والرسمية، طبعًا بما في ذلك الإقامة، بقيت الخطوة الأهم في مشروعي القديم المتجدد، وهي العيش في وسط لندن.


وأخيراً في عاصمة الضباب لندن

وبالفعل، انتقلت إلى لندن عاصمة العالم، وبالتحديد إلى حي كنزينغتون (Kensington) الراقي المتاخم لوسط لندن، والمجاور لحي شيلسي العريق، منذ شهر يوليو 2016م. وقبل ذلك، أي في شهر مايو 2016م، مكثت في حي ويستمنستر الراقي أيضًا. والحمد لله على كل ما مررت به، حلوه ومره.

خلال فترة إقامتي في لندن، درست في كلية غرب لندن وحصلت على عدة شهادات دراسية مهمة وضرورية. كما انخرطت في سوق العمل، حيث عملت في مواقع ومرافق مختلفة وفي وظائف متنوعة، مما ساهم في اندماجي بالمجتمع البريطاني.

لاحقًا استلمت الإقامة الدائمة البريطانية بتاريخ 8 يناير 2021م، ثم استلمت الجنسية البريطانية بتاريخ 26 يوليو 2022م. وبعد أسابيع قليلة من حصولي على المواطنة البريطانية، حصلت على جواز سفر بريطاني، وسافرت إلى دول مثل فرنسا ومصر وإسبانيا.

كما سافرت إلى السودان في شهري يوليو وأغسطس 2023م بعد غياب حوالي عشرة أعوام، كان ذلك عن طريق معبر أرقين.

الحلم يبدأ صغيرًا ثم يكبر تدريجيًا. عليك أن تتسلح بالصبر والعزيمة والإصرار، وتتوقع الأسوأ قبل الأفضل، ولا تستسلم لأي شيء. قاوم الظروف.

أبحث دائمًا عن الحلول والبدائل عند مواجهة الإخفاق. ارسم خطة واضحة لحياتك وركّز على هدف معين، فليس هناك ما هو مستحيل تحت شمس الحياة.

قم بواجبك دون أن تضر أحدًا. تصالح أولًا مع نفسك ثم مع من حولك، وتمنى الخير للجميع. حول الصعوبات إلى فرص تصب في صالحك.

وفي النهاية، يزول كل شيء ويبقى فقط الإنجازات والانكسارات والذكريات.

أو كما قال الشاعر التونسي أنيس شوشان:

عش حــــــراً يا إبن آدم   فهذه الأرض للجميع