الاثنين، 9 يوليو 2018

رحلة البقاء أو الفناء من بلطيم المصرية حتى لندن (الذكرى الثالثة)

قبل ثلاث أعوام ميلادية بالتمام والكمال، وعبر البحر الأبيض المتوسط (بحرنا جميعاً) لم يكن سوى الماء والهواء والسماء أصدقاء مخلصون لنا في طريقنا المليء بالآمال والآلام، بالعذاب والخلاص، بالإرادة والتصميم، بالطموح والتحدي، كنا نرى شبح الموت والهلاك، الحياة والوجود، لكن قوة إيماننا بالآجال، وبالنهايات الحتمية في الزمان والمكان رسمت لنا لوحة تبتسم مثل الموناليزا في زرقة المياه المالحة.
الأمل (قارب) نخوض به بحر الحياة لنصل إلى شاطئ الأمان، وتلك المركبة كانت هي الأمل التي خضنا بها بحر الحياة وأوصلتنا لشاطئ الأمان، وبما أن ثلاثتهم كانوا خير رفقاء وأصدقاء وأهل ثقة لنا فلم يتركونا إلا ونحن بأمان في الشاطئ الشمالي الآخر المليء بكل معاني الحياة بعد معاناة (إحدى عشر يومـــاً) داخل أكبر البحار في العالم إلا وهــــو البحـــر الأبيـــــض المتوســـــط 
The Mediterranean Sea (بحر الروم) سابقاً.
دارت معركة سامية وفلسفية بيني وبين نفسي منذ أن وعيت في هذا العالم الحر والمقيد، وهي أن أعيش في واحدة من هذه الدول الأربعة فقط (الولايات المتحدة الأمريكية - كندا - المملكة المتحدة - أستراليا) تراتبياً، ولأسباب عديدةٍ كعامل اللغة الإنجليزية وقوة هذه الدول إقتصادياً وعلمياً وثقافياً وتقنياً وحضارياً وهي مرتبطة ببعضها البعض في ثقافاتها ولغتها ونظامها وفلسفتها، بسبب عامل الإمبراطورية البريطانية سابقاً، والتي لم تغب عنها الشمس.
ولطالما نويت وصممت وأقتنعت بالهجرة إلى أوروبا فعلي الدخول إلى المملكة المتحدة وفي المملكة المتحدة بريطانيا العظمى وفي بريطانيا العظمى إنجلترا وفي إنجلترا لندن وفي لندن وسط لندن وإلا فلا، وكان هذا هدفي وطموحي وغايتي.
لو عدنا إلى الوراء قليلاً سأجد نفسي مقيداً ومحاطاً بحكمة وفلسفة (الغاية تبرر الوسيلة)، حيث ركضت وجريت وحاولت وبذلت كثيراً من الجهد والمال والفكر والوقت وصبرت صبر أيوب عليه السلام، وذلك فقط من أجل الدخول لهذه الدول العظمى خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وحاولت بقنوات وطرق عدة كبرنامج اليانصيب (اللوتري) منذ العام 1999م - القبول الجامعي ...إلخ.
كل عام أخفق فيه كنت أعيد الكرّة والمحاولة بكل روح وتحدي وإصرار في العام التالي، وكل عام كان يزداد صبري وعزيمتي عن العام الآخر أكثر وأكثر وأعمق، فإما العيش الكريم بإحدى هذه الدول العظمى أو البقاء في السودان حتى الرحيل عن أديم الأرض.
في الفترة التي تلت العام 2005م بدأ الإتجاه نحو أوروبا يأخذ حيزاً ما في خططي كنوع من التعويض عن الإخفاق في حال عدم توفيقي في دخول الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا، كما ظهرت بعد تلك الأعوام ظاهرة السفر إلى إندونيسيا ومنها الهجرة إلى أستراليا بحراً ولكن هذه الفكرة كانت في آخر الصفوف لأولوياتي.
لا أخفيكم سراً بأنني تقريباً جربت وحاولت ودخلت بنفسي في عدة سفارات أوروبية وبمختلف الطرق ولكني لم أتوفق في أية واحدةٍ منها طوال تلك السنين الخوالي.
 وحاولت أكثر في العام 2010م عند مكوثي في القاهرة لمدة أربعة أشهر ولم أصل لشيء حينها، ورجعت للسودان لتجديد المحاولات تلو الأخرى.
ولم أستسلم لليأس، فلا مكان له عندي ولن يكون، والحمد لله على نعمة الصبر، وبسبب تلك المحاولات المتعددة غيرت وبدلت جواز سفري عدة مرات الأخضر منه والإليكتروني كما يسميان.
إلى أن لاحت لي الفرصة الذهبية التي كنت أنتظرها لمدة 15 عاماً، وذلك في العام 2014م وتحديداً في شهر سبتمبر، حيث ظهرت لي مواعيد المقابلة الشخصية في السفارة الأمريكية في المدينة التي أحبها كثيراً بل وأعشقها لدرجة قف تأمل وفكر (القاهرة) الساحرة، وذلك بعد عمل ترتيبات كثيفة مع الأخ الجميل جمال لوتري، ممرات وظلال ومكاتب عمارة (دوسة) بالسوق العربي بالخرطوم يشهدون على ذلك.
أذكر جيداً أنني غادرت العاصمة السودانية الخرطوم وخاصة الحي الذي نقيم فيه (الحلة الجديدة) والمناطق المجاورة (أبو حمامة - الديوم) بوسط الخرطوم، صوب القاهرة صباح يوم الإثنين الموافق 1 سبتمبر 2014م من مطار الخرطوم (الغير دولي) عبر الخطوط الجوية المصرية وعلى متن طائرة (إيرباص a321).
دخلت أروقة وغرف وممرات ودهاليز السفارة الأمريكية الضخمة والفخمة بالقاهرة والكائنة بحي (غاردن سيتي) الراقي بوسط البلد صباح يوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر 2014م ولأسباباً كثيرة يصعب ذكرها رفض موظف السفارة أوراقي وحرماني من تأشيرة الدخول لبلاد العم سام بعد أخذهم لبصمات الأصابع كلها.
من جانبي أقفلت ملف الولايات المتحدة الأمريكية ومعها جارتها كندا في نفس اللحظة بالطبل والشمع الأحمر، وفتحت ملف الهجرة إلى أوروبا بكل السبل، وذلك لأنني جربت وبذلت كل ما في وسعي وسعيت ودخلت السفارة الأمريكية بنفسي ولم أتوفق والحمد لله على كل شيء حلوه ومره، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم.
ولمعرفتي الكبيرة بالقاهرة منذ العام 2010م صممت على البقاء والعمل بها حتى صيف العام التالي، أي في صيف العام 2015م وأنا ما زلت حينها بصيف العام 2014م، فالهجرة غير الشرعية نحو أوروبا كانت نشطة عندما خرجت من السفارة الأمريكية خالي الوفاض، ولكنها أكثر أماناً في أشهر مايو ويونيو ويوليو وأغسطس ونوعاً ما سبتمبر وأكتوبر، لذا لم أجازف حينها وفضلت البقاء.
لا بد وأن أشكر كل من وقف معي في تلك الفترة بفكره ووقته وماله منذ مغادرتي السودان وحتى إنتهاء مقابلتي في السفارة الأمريكية، بل وبعدها أيضاً، خاصة أهلي وأصدقائي بالسودان وقارة أوروبا والولايات المتحدة وكندا ودول الخليج ومصر، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
في نفس فترة تواجدي بمصر لأكثر من تسعة أشهر ولحين موعد بدء موسم الهجرة إلى الشمال مرة أخرى، عزمت علي المحاولة لدول أوروبية مختلفة وخاصة دول شرق أوروبا والتي لديها تأشيرات دخول خاصة فهي غير منضوية في فضاء الشنغن، وحاولت لهذه الدول (روسيا - أوكرانيا - صربيا - بلغاريا - رومانيا - بالإضافة لتركيا).
كانت الخطة هي الوصول لهذه الدول أولاً ثم التوجه نحو دول أوروبا الغنية وخاصة بريطانيا، ولكي أستطيع الدخول لدول غرب أوروبا من تلك الدول التي ذكرتها هناك طريق مشهور لا بد وأن أسلكه، ويمر عبر 8 دول بشرق ووسط أوروبا ويسمى بطريق (درب النمل).
كالعادة كل مرة كان جوازي يخرج خالياً نظيفاً من هذه السفارات كما دخل أول مرة، ولكن طالما هنالك هجرة غير شرعية عبر البحر الأبيض المتوسط (بحرنا جميعاً) ومن على هذه الأرض (مصر) فقد إرتأيت أن أصبر حتى الصيف التالي مهما كلفني الأمر، وهو ما حصل.
أذكر أن بعضاً من أقربائي وأصدقائي كانوا يخوضون معي نفس هذه التجارب منهم الأخ سامي سيد أحمد (سامي هردة) والأخ إبراهيم ناصر (هيما) حيث غادروا فيما بعد إلى السودان ومنها إلى المملكة العربية السعودية، أيضاً كان معي الأخ أواب ماهر الذي غادر إلى ليبيا ثم روسيا فيما بعد والآن عاد إلى القاهرة، والأخ علي الفكي الذي تواجد بليبيا هذا العام ووصل حتى فرنسا حالياً وأستقر بها، وغيرهم.
بكل هذه الفترة كنت أقيم بالقاهرة وفي أحيائها الجميلة والعتيقة والشعبية التي أعشقها بوسط البلد (عابدين - السيدة زينب - العتبة) وكذلك سكنت لمدة شهر بحي (المهندسين)، ويا لها من أيام، مرت كالخيال أحلام.
ما جعلني ألزم جدار الصبر وحائط التأني وسور التريث أكثر وجود صديقي والذي أعرفه من السودان الأخ ناصر صالح والمعروف بلقب (ناصر أدروب) في القاهرة، فهو خبير بكواليس الهجرة غير الشرعية، ولمحاسن الصدف أنه دخل معي السفارة الأمريكية في نفس اليوم الذي دخلت فيه، ولم يوفق بدوره في ذلك، فإتجه للعمل الآخر (مندوب - سمسار - وسيط)، وهو شخص ذو ثقة وأمين، وساعدني في موضوع الهجرة كثيراً فله مني كل الإحترام والتقدير.
الحذر كل الحذر من بعض الأشخاص الذين يدعون أنهم مهربون وسماسرة ويقنعونك ببعض الكلمات المعسولة، وما إن تسلمهم ربع أو نصف أو كل المبلغ الذي معك (بالدولار) لن تجدهم أمامك ثانية إلا يوم يبعثون، لذا فالحذر واجب لأن معظم السودانيين الذين يترددون على (منطقة العتبة) بالقاهرة يدعون أنهم مهربون ومناديب رسميين ووسطاء ويعملون لحساب الشخصيات الكبيرة بمصر، وهم ليسوا كذلك.
ولو أقنعك أي شخص أنه سيقوم بتسفيرك على متن سفن تجارية وستكون من ضمن طاقم الخدمة (السيرفس) بها فهو كاذب حد النخاع ولا تصدقه، فالسفينة المقصودة ما هي إلا مركبة صيد عادية وكل المهربين والمناديب يعملون تحت إمرة شخص واحد فقط وهو مصري الجنسية، ولديه مناديب رسميين في السودان أيضاً خاصة مدينة أم درمان منطقة (سوق ليبيا)، كما لديه مناديب في دول عدة، فهم يشكلون (مافيا) كبيرة والحكومات المحلية لا تستطيع أن تفعل الكثير لمنعهم لأسباب عديدة.
في الطريق إلى بلطيم بالساحل الشمالي
بعد أكثر من تسعة أشهر بقاهرة المعز آن الأوان لموسم الهجرة إلى الشمال، ومغادرة مصر والتوجه نحو الأفضل (أوروبا)، ففي صباح يوم السبت 27 يونيو 2015م الموافق 10 رمضان 1436هـ إتصل بي صديقي ناصر بأن أجهز نفسي للرحلة (المجهولة - المعلومة) فوراً، لأن تجميع المهاجرين سيكون مساء هذا اليوم، شخصياً كنت جاهزاً ومستعداً قبل دخول شهر رمضان بفترة طويلة، وفضلت شهر رمضان ومعه بالتزامن شهر يوليو بعز الصيف، فهو أفضل شهور الصيف بالنسبة للهجرة لهدوء مياه البحر.
نسبة النجاة والنجاح لا تتعدى الثلاثون بالمائة خاصة من مصر لأنهم أكثر تنظيماً ومراكبهم متينة، أما من ليبيا فنسبة النجاح لا تتعدى الخمسة بالمائة بالرغم من قربها الشديد لإيطاليا ولرخصها فلا أنصح عاقلاً بالذهاب إليها، فإن لم تمت من الصحراء، فستموت من جور وبطش العصابات والحركات المسلحة، أو من قسوة وغلاظة معظم الليبيين، وإن لم تمت منهم فالبحر العميق ينتظرك لأنهم يبحرون ويهاجرون عن طريق (البلم) وهي القوارب المنفوخة بالهواء أي القوارب المطاطية، وأقل ثقب يعني الهلاك والفناء، ونادراً ما يتم تهجيرهم بالمراكب الحديدية أو مراكب الصيد.
ولكن ما يحسب لليبيا قلة تكلفة الهجرة حوالي 500 دولار تقريباً للفرد بينما في مصر أقل سعر 2.000 دولار، والليبيون يصلون إيطاليا بين ليلة وضحاها بينما المصريون في أقل تقدير يحتاجون لستة أيام، هذا خلاف أيام التخزين في الماء، أنا شخصياً مكثت إحدى عشر يوماً (11 يوم) في الماء.
مشيناها خطى كتبت علينا   ومن كتبت عليه خطى مشاها
يجب عليك قبل الشروع في هذه الهجرة الطويلة شراء حقيبة ظهر صغيرة أو متوسطة الحجم تضع بها ملابس وغيارات بسيطة بعد لفها وتغليفها جيداً باللاصقات الكبيرة تفادياً للبلل والتلف.
 لا تنسى أيضاً شراء مياه معدنية وبعض التمور وبعض صناديق البسكويت والأغذية المجففة لأن كمية الطعام الجيدة والمياه الصالحة للشرب غالباً ما تنفد في مراكب الهجرة قبل وصولك لبر الأمان بيوم أو يومان أو أكثر.
والأهم من كل ذلك هو شراء (سترة النجاة) خاصة لمن لا يستطيعون أو يجيدون السباحة، وأذكر أنني أشتريت واحدة منها من (شارع الجمهورية) الشهير بالقاهرة بسبعون جنيهاً مصرياً، وعلى المهاجر وضع هاتفه الجوال في لفافة ورقية صغيرة أو جراب بلاستيكي وتغليفه باللاصق جيداً لكي لا يتعرض للبلل والرطوبة العالية وبالتالي عدم القدرة على التشغيل لاحقاً لأن الهواتف الذكية أهم من أي شيء آخر بمجرد وصولك أوروبا.
كما يجب على المهاجر أن يحمل معه مبلغ 300 يورو على أقل تقدير، فتدبير حالك في الأيام الأولى ستكون صعبة إذا لم يكن معك مثل هذا المبلغ أو أكثر، حتى الدولارات والعملات الأجنبية الأخرى يصعب تحويلها إلى اليورو بكل سهولة، لذا فالأفضل حمل عملة اليورو معك، والمحافظة عليها بالطرق المعروفة.
أذكر جيداً أنني قمت بتحويل مبلغ إقترب رقمه من 1000 جنيهاً مصرياً مقابل 100€ من إحدى الصرافات بميدان (لاظوغلي) لإستخدامها فيما بعد بأوروبا، حيث دبرته بعد أن فقدت جواز سفري بإحدى سفارات شرق أوروبا بالقاهرة وإشترطت علي الوسيط الذي أخذ جوازي تعويضي بمبلغ 100$ وزدت عليه بعض الجنيهات لأن اليورو أعلى من الدولار، وتمكنت من شراء المائة يورو تلك، فلا فائدة من جواز السفر في هذه الهجرة، ولن ينفعني، والأفضل الإستفادة منه بأية طريقة، بل وحتى جوازي هذا لم يكن بإسمي.
فيما يخص المبلغ المطلوب للهجرة عليك تسليمها عداً ونقداً للمندوب أو المهرب أو الوسيط الذي تثق فيه بدون تردد، وقبل أن تتحرك نحو الساحل الشمالي، لأنك إن لم تدفع فلن تهاجر أبداً وستنتظر كثيراً وتؤخر نفسك وتمل، وتصاب بخيبة الأمل، وربما يكون مصير هجرتك مجهولاً.
ثمن التهريب بمصر للفرد الواحد يتراوح ما بين 2.500$ - 3.000$ وقد يزيد أو ينقص من هذه الأرقام في فترات معينة، ولكل الجنسيات، والأطفال الصغار يخصصون لهم مبالغ بسيطة مع ذويهم.
المبلغ الذي دفعته شخصياً كان 2.600$ أمريكياً، ولا يوجد ما يسمى بالدفع لاحقاً، أي بعد الوصول لأوروبا عن طريق طرف ثالث فهذا هراء وكذب، وتتلاشى عند وصولك لبيوت التخزين فيما بعد.
كان من المفترض أن أغادر في الأول من رمضان مع الإخوة معاذ صالح الذي ذهب إلى ألمانيا أولاً ثم إستقر الآن بفرنسا والأخ عبد الوهاب هاشم (وهبة) الذي صال وجال ما بين ألمانيا وفرنسا وإستقر أخيراً ببريطانيا، ولكن لأسباب عديدة فضلت أواسط رمضان ونهايات شهر يونيو أو بدايات يوليو.
قبل إفطار ذلك اليوم (يوم التجميع وليس الهجرة) بساعات قليلة خرجت من غرفتي الصغيرة والأرضية بتلك العمارة الضخمة الكائنة بمنطقة سعد زغلول (حي السيدة زينب) وكان يسكن معي إبن خالتي المهلب حسن عثمان (سكرتير) وإبن عمي مصعب صلاح (دنقل).
قمت بتحويل 100 يورو كما ذكرت، ثم إتجهت صوب ميدان (محمد فريد) بالقرب من العتبة وبمعية صديقي أواب ماهر حيث أوصلني حتى الميدان المعني، إستغليت تاكسي من هناك تجاه حي (عين شمس) الشهير في شمال القاهرة بثلاثون جنيهاً تقريباً حيث لا وقت لدي للدخول في عملية تفتيش الحقائب في محطات مترو الأنفاق في القاهرة.
وصلت عين شمس قبل آذان المغرب بساعة تقريباً وفي نفس العنوان الذي أرسله لي صديقي ناصر، فالمناديب عادة ما يقومون بتأجير الشقق السكنية في الأحياء الشعبية في القاهرة والإسكندرية لتجميع المهاجرين أو لمن يأتي من السودان ولا سكن له بمصر، وتسمى بشقق أو بيوت (التخزين).
 ويتمركزون غالباً بأحياء عين شمس وأرض اللواء وفيصل بالقاهرة، والأخ ناصر كان هو المسؤول عن واحدة منها بعين شمس.
لم أكن أعرف أحداً من أفراد الرحلة قبيل مغادرة مسكني بالسيدة زينب، لأن أصدقائي الذين أتفقوا معي على الهجرة من قبل مروا بظروف مختلفة ولم يكملوا الرحلة معي إلى الآخر وكانوا كُثر.
وبما أننا لا نعلم ما تجود أو تقسو به الأيام لنا، فقد ألتقيت وتعرفت على أصدقاء أقل ما يقل عنهم بأنهم (إخوة)، فأول من تعرفت عليه داخل شقة التخزين هو الأخ عمر آدم حسن، وكان نعم الأخ والصديق وعندما سمعت حكايته وعن محاولاته المتعددة للسفر وأنه تعرض من قبل للسجن والترحيل بسبب الهجرة غير الشرعية وأنه مصمم على الهجرة إلى أوروبا وخاصة بريطانيا، قلت في غرارة نفسي هذا هو الذي أبحث عنه (الرفيق قبل الطريق)، والحمد لله فقد حقق حلمه وأمنيته فيما بعد، وهو الآن مقيم بمدينة (شيفيلد) الإنجليزية.
وبعد الإفطار مع مجموعة من الشباب في نفس الشقة الخاصة بالتجميع، رّن هاتف الأخ ناصر حيث طلب منه رؤساء العمل إحضارنا إلى (ميدان رمسيس) فوراً بوسط البلد، وبالتحديد بالقرب من (مسجد الفتح) حيث مكان تجميع المهاجرين هناك.
قبل الوصول إلى محطة مترو عين شمس القريبة من بيت التخزين، وبالرغم من ترددي في إستغلال المترو بسبب عملية التفتيش في ذلك اليوم تحديداً، فقد تعرفت على بعض المهاجرين من الشقق المجاورة منهم الأخ عبد الرحمن وهو الآن بفرنسا، حيث أصر علينا بأن نذهب بواسطة المترو لغلاء أجرة التاكسي، وأكد لنا بأنه لم يتعرض للتفتيش أثناء حمله لحقائب مختلفة في السابق.
كان سبب ترددي أنني أحمل سترة النجاة في الحقيبة مما يعني أنني بصدد الهجرة إذا ما فطن رجال الأمن لذلك طبعاً، وعملية الإستجواب نفسها قد تعني ضياع الرحلة وهذا ما لا أرغب فيه أبداً، وفي النهاية وافقت على مضض لكسب الوقت، ولم نتعرض لعملية التفتيش حينها لحسن الحظ، ووصلنا محطة رمسيس مع وقت العشاء.
في الشارع الخلفي المجاور لمسجد الفتح رأيت حوالي ثلاث عربات تقريباً متراصة ومصفوفة جميعها من نوع الحافلات الصغيرة (ميكروباص) مكتظة بالمهاجرين كل عربة بها نحو عشرون مهاجراً، وهي من المفترض أن تحمل خمسة عشر فرداً فقط لصغرها، وكانت هنالك حركة دؤوبة من قبل مناديب آخرين سبق وأن رأيتهم من قبل وكل واحد منهم يأتي ببعض المهاجرين خاصته وإعطائهم بعض النصائح والإرشادات قبل التحرك، فالكل يعمل تحت إمرة شخص واحد أو إثنين من الجنسية المصرية كما ذكرت، ويعرفون بأبو خالد وأبو أحمد وأبو محمد وهي أسماء حركية وغير حقيقية غالباً.
بعد دقائق معدودة تحركت العربات الثلاث نحو الشمال متجهين صوب محافظات ومدن وقرى البحر الأبيض المتوسط، ولكن قبل ذلك لا بد وأن نمر ببوابات ومداخل بعض محافظات الدلتا (الوجه البحري).
كنا نمُر بعدة محافظات ومدن ومراكز ونجوع وقرى ومزارع كبيرة، لكن البوابات الرئيسية في الطريق السريع نحو الشمال كنا نجدها عند مدخل المحافظات مباشرة، وأولى المحافظات الشمالية بعد القاهرة هي (القليوبية) ولم تكن بها بوابة لأن الأجزاء الشمالية من القاهرة نفسها مثل (المرج والمرج الجديد وعزبة النخل) تعتبر أحياء متداخلة ومتخامة للقاهرة الكبرى جغرافياً.
لذلك أولى البوابات كانت بوابة محافظة (المحلة الكبرى)، ومرت العربات بسهولة كأن شيئاً لم يكن لأن بعض أو معظم أفراد الأمن (ضباط - صف ضباط - جنود) على معرفة تامة بالعربات التي ستمر عليهم من طرف المهربين مما يعني أنهم على صلة بكل ذلك، ويستفيدون مادياً من كل تلك التسهيلات، فالسائق لم يُبدي أية مخاوف ولم يكن متوتراً أو قلقاً فالتواصل بينهم تم بإشارات معينة، فقد كنت في المقعد الأمامي للحافلة الصغيرة بالقرب من السائق وبجانبي صديقي عمر.
تكرر المشهد مرة أخرى حال مرورنا بمحافظة (كفر الشيخ)، والوقت كان متأخراً عند وصولنا لهذه المحافظة، حيث إقتربنا من منتصف الليل والحافلات تسير نحو قرية (بلطيم) الساحلية والتي تقع في محافظة كفر الشيخ نفسها وبعيدة قليلاً عن محافظة ومدينة (الإسكندرية) من جهة الشرق، وبالقرب منها بحيرة (البرلس)، وعلى جنوبها بقليل تقع بلدة (الحامول) وهي من قرى التهريب المشهورة كذلك.
ومن مدن التهريب المشهورة الإسكندرية نفسها وتتم عملية التهريب بها في شواطئها المعروفة وعلى مرأي ومسمع من السكان، وكذلك هنالك مدن تهريب أخرى مثل (رشيد ودمياط ومرسى مطروح والسلوم والمنصورة) وغيرها من مدن الساحل الشمالي لمصر.
قبل أن نتحرك من ميدان رمسيس أوعدونا بأننا سنتحرك على مركبة التهريب بعد الوصول لبلطيم مباشرة، وعندما وصلنا بالقرب من القرية المعنية بعدة كيلومترات تم إنزالنا بإحدى المزارع الكبيرة بعد إتصال تم بين السائقين والمهربين والمتواجدين هناك، وجدناها فرصة منهم من شرب ما توافر معه من الماء، ومنهم من قضى حاجته لطول المسافة، وأمرنا بالصمت لعدم لفت الأنظار.
أكثر ما يشغل عقلك وتفكيرك ويشد إنتباهك أنك لا تهاجر فقط مع شباب مثلك، بل هنالك أطفال ونساء وكبار السن ومن مختلف الجنسيات العربية والإفريقية، وبعد دقائق تم إدخالنا جميعاً بدون فرز في عربة مخصصة لنقل الرمال ومواد البناء (قلابات)، ومن هنا بدأت الصعوبات وقسوة السفر، والمعاناة والصبر وقوة التحمل، فكان لنا ذلك.
ثم غطي علينا بمشمع ضخم ونحن داخل بعضنا البعض، لا مجال لمد أرجلنا، ومع ضيق المكان زاد هذا المشمع الضخم والثقيل الأجواء أكثر سخونة وصعوبة كما طلب منا المهربون عدم الكلام لكي لا يكشف حالنا، وكلهم مسلحون بطبيعة الحال والأحوال.
إلتزمنا الهدوء إلا من بعض همهمات وهمسات الأخ عبد الله عثمان (شارون) وهو الآن بفرنسا، وبالقرب مني كان صديقي الآخر محمد خالد (سمارة) وهو الآن ببريطانيا، حيث تعرفت عليهم فيما بعد أكثر وأكثر.
وبعد برهة أدار السائق محرك العربة المشؤومة تلك، نحو بيت التخزين وليس نحو البحر كما كان مقرراً حيث جدت بعض الظروف حالت دون ركوبنا أمواج المتوسط في تلك الليلة، وواصلنا مسيرنا في الطرقات الوعرة تارة وبالطرقات المعبدة تارة أخرى، حتى وصلنا بيت التخزين في قرية بلطيم، وتم إنزالنا بسرعة فائقة من العربة وإدخالنا ذلك البيت البائس بسرعة أكبر، فهؤلاء يعرفون عملهم جيداً.
داخل قرية بلطيم
دخلنا جميعاً في ذلك المنزل القروي بقرية بلطيم في ساعة متأخرة من الليل، كان المنزل في طرف البلدة وتجاوره مزرعة كبيرة، وعلى الجوانب الأخرى منها الأحياء السكنية والشوارع الترابية، وما إن دخلنا البيت حتى فوجئنا بمهاجرين آخرين هناك كان قد طال بهم الزمن قليلاً، سخونة الأجواء أيضاً مع الرطوبة العالية تمكنتا من قهرنا بالتزامن مع ضيق ذلك المنزل الريفي المكتظ بأكثر من 60 مهاجراً ومهاجرة، ذلك البيت الذي لا يسع لأكثر من ثلاثون فرداً، لم أقطع الأمل بالله بأن كل ذلك سيكون من الماضي قريباً لتذكره وإستذكاره فيما بعد، لأن شرح ما كنا عليه في بيت التخزين لا يستوعبه عقل ومنطق.
ذلك المنزل الريفي عبارة عن ثلاث غرف، وصالة، ومطبخ، وحمام (دورة مياه) يستخدمه الكل ورائحته تضرب في كل مكان بالمنزل، وفي إحدي الغرف تم إدخال النساء والأطفال منعاً لإختلاطهم بباقي الموجودين وبالرغم من كل ذلك وجد بعض الشباب مساحة ضيقة معهم من أجل النوم والإسترخاء من شدة التعب، فالمساحات غير موجودة بتاتاً، والكل يحمل حقيبة ظهر معه، ونمنا بجوار بعضنا البعض، وأنفاسنا كذلك تزاحمت، وروائح أجسادنا وأفواهنا وملابسنا وأحذيتنا إنتشرت بأرجاء المكان، ممنوع الكلام وممنوع الحركة، وممنوع إستعمال الجوال، بل ممنوع كل شيء، وأي شيء.
بعد ساعة كاملة منذ وصولنا تم توزيع وجبة العشاء وهي عبارة عن قطعة خبز يابسة مسحت عليها بعض الجبن، وأحياناً يتم حشوها ببعض حبات الفول أو يوضع من فوقها بعض شرائح اللحم المبرد أو قطعة طحنية، ويتم توزيع المياه قليلاً حتى أثناء الإفطار، وكان هذا هو المتاح كل يوم.
تخيلوا معي بعد كل تلك المسافات التي قطعناها ونحن في عز الصيف وتنتظرنا بواقي أيام رمضان ووجباتنا مثل ما ذكرت!، مع بعض المياه القليلة! ولكن لم علي الغضب والإستغراب؟! فقد كنت أعلم بكل ذلك من قبل حرفياً وعلي التحلي بالصبر، والتكيف مع الوضع الراهن.
عملية النوم صعبة للغاية في تلك الحالات فعلي يمينك ويسارك مهاجرون مثلك، ولو مددت قدميك قليلاً وضربت أو لامست أحدهم سهواً ستسمع ما لا تريد سماعه منه أو من أي شخص لأن المجال غير موجود.
كنت أنام على مقربة من دورة المياه وبجانبي إخوة من إريتريا والسودان، وكان المكان مزعجاً ولا تستطيع أن تغفو لأكثر من خمس دقائق بسبب عملية الدخول المتكررة لدورة المياه وبالعفص الغير مقصود لك ولكل النائمين.
في اليوم التالي أي يوم الأحد 28 يونيو 2015م الموافق 11 رمضان 1436هـ كنت صائماً ومعي كثيرون، والأفضل لك ولغيرك أن تصوموا لأن الإفطار لن يأتي لكم بالفرق، حتى دخول دورة المياه الواحدة تلك والباعثة للروائح التي تزكم الأنوف بالصف وللجنسين، وكان بعض الأفراد التابعين لكبار المهربين والمناديب يقفون فوق رؤوسنا وعددهم في كل مرة ثلاث ويتم تبديلهم بآخرين بعد ساعات طويلة.
مهمتهم توزيع الطعام والشراب للكل، وحسم الفوضى وإسكات من يثرثر، وإدارة تلك البيوت الكئيبة، وأيضاً كلهم مسلحون تقريباً، أذكر أن أحدهم كان ينادي بأحمد، ولو أردت شيئاً خاصاً لك مثل السجائر أو رصيد لجوالك أو معلبات أو فواكه أو عصائر أو حلوى أو سندوتشات أي شيئاً آخر من الخارج، فعليك تسجيل إسمك في الكشف المخصص بالطلبات الخاصة مع الباقين لأن أحد المناديب والتابع للمهربين سيذهب إلى داخل المدينة أو إلى مدينة أو قرية أخرى قريبة من بلطيم لجلبها بعد الإفطار، وقبل ذلك عليك الدفع مقدماً.
كان المدعو أحمد يفتح لنا نافذة واحدة بعد مرور ساعات طويلة من أجل إدخال بعض الهواء الريفي المنعش داخل البيت المكتظ بالمهاجرين، طبعاً لا تستطيع الإستحمام لأنه لا يوجد حمام بالأصل، فقط دورة مياه، وبالكاد تقوم بأداء صلواتك.
المهربون عادة يخشون بلطجة بعض السكان المحليين أو مداهمات الشرطة في أية لحظة بالرغم من معرفتهم معظم أهالي القرى التي بها بيوت التخزين، ولكن لا أمان أو ضمان أو إستمرارية لهذه الأعمال والنشاطات الخطرة، وتصفية الحسابات بين المهربين تأخذ مجراها أيضاً.
فقد حصلت حوادث كثيرة من قبل مثل مهاجمة المهاجرين وسلب ونهب ما خف وزنه وغلا ثمنه، وسمعنا من بعض المهاجرين حكايات كثيرة وكيف أنهم تعرضوا للنهب والسلب والوعيد والضرب والسجن، سواء من الشرطة أو البلطجية.
بينما نحن كذلك يتم تبشيرنا بأننا سنبحر في نفس اليوم (أي اليوم التالي لنا بالتخزين) مما يزيد من معنوياتنا، وأثناء ذلك تأتي لعبة الإستلام والإستسلام والتسلم، بمعني أن من لم يسلم أمواله نقداً والذي عند الطرف الثالث أو الوسيط أو عند السمسار الصغير للمندوب الرسمي الذي تفاوضت معه من قبل (الطرف الثالث) فلن تكون من أفراد الرحلة الحالية، بل ستبحر في رحلات قادمة إلى أن توافق على تسليم المبلغ المطلوب.
 هنا فقط تأتي لحظة الإستسلام من قبل المهاجر فلا يستطيع إنتظار أكثر من ذلك وليحصل ما يحصل، وبالفعل أعيد بعضهم إلى القاهرة لعدم التسليم، وبهذه الكيفية تنتفي (نظرية الطرف الثالث) مهما كان شأنك وشأنه، لذلك لا أدعو أحداً لتصديق مقولة الطرف الثالث أو أي طرف آخر.
إقتربنا من صلاة المغرب ومعنوياتنا جيدة بإعتبارنا سنبحر اليوم كما قالوا لنا سلفاً، وبدأت التجهيزات والإعداد للإفطار وتوزيع تلك الأرغفة البائدة، ما كان يحيرني أن معظم المهاجرين سبق وأن أعتقلوا وأعيدوا من البحر نفسه كذا مرة، بل هنالك أحد الشباب الصغار من الجنسية الإريترية سبق وأن تم تخزينه داخل المركبة في عرض البحر لمدة 18 يوماً ثم أعيدوا جميعاً لمصر.
أيضاً بعض السودانيين أعيدوا إلى السودان بعد حبسهم لأيام أو أسابيع أو شهور ولكنه (أي المستبعد) يعود أدراجه عن طريق معبر (شلاتين) الحدودي بين مصر والسودان لأن جواز سفره محظور لفترة طويلة من قبل السلطات المصرية وتم وضع ختم ما عليه ولا يحق له دخول الأراضي المصرية قبل إنقضاء فترته الزمنية، ولكنه يعود بطريقة ما، وبمجرد وصوله يتم إلحاقه بالرحلات التالية فالمهربون لا يطلبون منك الدفع مجدداً طالما دفعت وإسمك وشخصيتك معروفة عندهم وعند المناديب والمهربين الذين تعرفهم، وهذا حقك عندهم.
والشخص الذي يحمل معه بطاقة لاجيء (كرت اليو إن الأصفر) يعيدونه إلى القاهرة، وبعض الشباب كانوا يحملونها معهم، ففي حال القبض عليهم يتصلون بمكتب اللاجئين في القاهرة، ثم يتم إرجاعهم بعد أيام، وهذا يعني أنهم أكثر أماناً، وحال السجون المصرية لا يسر عدو ولا صديق.
في السفر عادة لا تربط مصيرك وقسمتك وحظك بمن سبقك أو بمن سيأتي بعدك فلكل شخص منا في هذه الدنيا حكايته وقسمته وحظه وإجتهاده ونصيبه وأن الله هو مسيرنا، وما عليك إلا المثابرة والإجتهاد، وعليك أن تصاحب البال الطويل، وتوادد الصبر وكن رفيقهما وأنيسهما.
بعد الإفطار في ذلك اليوم سمعنا إخبارية غير سارة من أحد أفراد التهريب أن الإبحار اليوم محال وغير ممكن لسوء الأوضاع الأمنية والطبيعية لذا فعلينا إنتظار اليوم التالي، وإنتظرنا كالعادة فما باليد حيلة.
في نفس اليوم وبالليل إن لم تخني الذاكرة أضيفت إلينا مجموعة أخرى وتم أخذ النساء والأطفال إلى بيت آخر حيث إمتلأ المنزل عن بكرة أبيه، ولا مجال حتى للجلوس دعك من التمدد والنوم، وعددنا قرابة المائة.
معظمنا كنا من السودان وإريتريا والصومال وإثيوبيا (الثلاثة جنسيات هذه هم ملوك وأساتذة التهريب ومنذ سنوات طويلة)، وكان معنا كذلك بعض الأفراد من جزر القمر، علماً بأن هنالك بيوت أخرى للتخزين بها مهاجرين أيضاً، سنلتقي بهم في البحر لاحقاً.
رويداً رويداً بدأنا نتعرف على بعضنا البعض، وممن عرفتهم شباب يعرفون بلقب (أولاد السلك) ويقصد بذلك الشباب الذين كانوا في (إسرائيل) من قبل لأسباب وظروف قاهرة أقوى منهم بكثير، ودخلوها عن طريق شبه جزيرة (سيناء)، أي أنهم قطعوا مسافات طويلة مع المهربين من (بدو) سيناء ودفعوا الكثير من الأموال، وقاموا بتقطيع وإجتياز الأسلاك الشائكة (دلالة على العبور) الفاصلة بين مصر وإسرائيل لذا إلتصق اللقب بهم.
 وجلهم كانوا نعم الأصدقاء والرفاق وأذكر منهم الإخوة إدريس وهو الآن ببلجيكا، ومحمد الملقب بإسرائيلي وأحمد بندو وأنس وعز الدين وشوقي وحيدر وهم الآن ببريطانيا ومحمد يعقوب وهو الآن بفرنسا إلى آخرهم.
مغامرة الحياة والموت
تمت عملية المغادرة لبلطيم تجاه ساحل البحر الأبيض المتوسط مساء يوم الإثنين 29 يونيو 2015م الموافق 12 رمضان 1436هـ ولكنها لم تكن عملية سهلة وميسرة ولم تمر مرور الكرام، وتحتاج إلى أشهر مخرجي هوليوود وبوليوود لإخراجها.
فبعد مرور صباح ونهار وعصر ذلك اليوم الذي لن أنساه أبداً، ومع آذان المغرب بالتزامن مع الإفطار، أمرنا المهربين بسرعة التحرك نحو تلك العربات القريبة من المنزل الريفي والتي نعرفها جيداً، فهي نفس العربات التي تحمل مواد البناء خاصة الطوب والرمل والجير (قلابات).
فتح أحد المسؤولين باب البيت الريفي وقبل أن نحلل صيامنا صرخ في وجوهنا بأن نسرع ونسابق الخطى وفي أقل من خمس دقائق لم يكن هنالك أحد في المنزل الريفي.
 فالكل تم حشره في واحدة من الثلاث عربات مثل كراتين الفواكه وأكياس الخضار، وتم وضع الغطاء الثقيل مرة أخرى من فوقنا وكدنا أن نموت إختناقاً داخل العربات الثلاث حتى قبل أن تتحرك نحو ساحل البحر.
بعد دقائق ليست بالقليلة توقفت العربة تماماً وتسلل الشك إلينا وحللنا الموقف بأن الشرطة ربما علمت بالأمر، ولكن واصلت العربة سيرها مجدداً وبحذر قرابة الساعة، ثم توقفنا في منطقة شبه زراعية حيث إنتظرنا تعليمات كبار المهربين للتحرك.
كدنا أن نفقد حياتنا ليس بضيق المكان فحسب بل بسبب المشمع الذي من فوقنا أيضاً، قمت بإحداث ثقب صغير من أجل إدخال بعض الهواء، كان كل أمنيتي في الدنيا حينها فقط القليل من الهواء، ولكن المدعو أحمد رفع المشمع من فوقنا لمدة خمس دقائق تقريباً ويا له من فرق شاسع.
كان الجو رائعاً بطبيعة الحال بعد رفع الغطاء فنحن في وقت صلاة العشاء والتراويح وبالقرب من البحر، ولكن بعد أن سمعوا ثرثرتنا أعيدوا الغطاء كما كان ورجعنا لمربع الموت من جديد.
بعد إنتظار دام قرابة الساعة أخيراً جاءت الأوامر من الكبار بالإسراع بنا نحو شواطئ البحر المتوسط، فكل المهربين يعملون بخطط معينة ومدروسة ويمتلكون أجهزة الثريا للتواصل مع الكل، ولا أحد يتحرك من عمالهم ومناديبهم إلا بإذنهم، ويتم الأمر بالتنسيق مع بعض ضباط وعساكر خفر السواحل وقت مناوبتهم فقط، ثم إقتربنا من رمال شواطئ البحر المتوسط.
زدت إصراراً على مواصلة المشوار حتى النهاية فإما الفناء في البحر المالح أو الوصول إلى بر الأمان الأوروبي، فالحياة أمامي والشقاء وخيبة الأمل والتعاسة خلفي.
تم إنزالنا من العربة فوراً وبسرعة ولا نعرف بعد مصير العربات الأخرى، فقد إفترقنا في الطرقات، ثم سرنا بصعوبة بالغة في شواطئ رملية لمسافة ثلاثمائة متر وأكثر، الرمال ناعمة وبيضاء وتلمع بل تتلألأ أكثر مع ضوء القمر، والسير بها متعب ومنهك للقوى فما بالك ونحن بهذه الحالة وفي عز شهر رمضان وعطشى ونحمل الحقائب على ظهورنا؟ وأحياناً تغوص أقدامنا في الرمال الناعمة.
كنا نسير على حسب تعليمات المهربين ونحن وراء بعضنا البعض، نسمع كلامهم ونطبقه بالحرف الواحد حتى لا يكشف أمرنا من قبل خفر السواحل المصرية، نمشي قليلاً، ثم نقف قليلاً، ثم نجثو على ركبنا قليلاً، وبالكاد نزحف قليلاً بين الكثبان الرملية وهكذا حتى نهاية المطاف.
كان همي الأول والأخير في تلك اللحظات الحرجة والحاسمة هو إخراج سترة النجاة من الحقيبة وإرتدائها فوراً لأننا بعد قليل سندخل وسنغوص بأجسامنا وحقائبنا في بحر مالح متلاطم الأمواج، ولو لم أتمكن من إرتدائها حينها فحتماً كنت سأعود مع نفس العربة والمحاولة في يوم آخر مهما كلفني الأمر.
الحمد لله وجدت فرصة ذهبية لمدة ثلاث دقائق فقط وذلك عندما طلبوا منا أن نتوقف قليلاً، حيث خُيل لهم أنهم رؤوا جنود خفر السواحل وأمرونا بالتوقف، أسرعت في إخراجها وإرتدائها وبعدها كنت مطمئناً ومستعداً للدخول إلى المياه المالحة هذه المرة.
آخر مرحلة لنا قبل الدخول في المياه هي وجود ربوة رملية كبيرة (كُثيب رملي) علينا تخطيها ثم الدخول في الماء بكامل ملابسنا وحقائبنا، ثم السباحة لمسافة ثلاثون متراً أو أكثر حتى نصل المركبة الصغيرة والسريعة.
سارت الأمور على نحو جيد، ولكني فجأة لمحت أن أحد المهاجرين قد توقف بلا حراك في أسفل الربوة الرملية وأنا كنت في الأعلى والبحر أسفل مني ورأيت باقي المهاجرين يخوضون في المياه مسرعين نحو المركبة سباحة.
رجعت إليه وسحبته معي لأمتار كثيرة بالرغم من تعبي حتى دخلنا المياه سوياً، شكرني وقال لي بأنه يعاني من ضيق في التنفس وما كان ليكمل الرحلة لولا عناية ولطف الله ثم مساعدتي له، بدوري قلت له لا داعي للشكر فعلت ما كان يجب علي فعله، كان هذا هو رفيقي الأخ علاء الدين حسن من أبناء بورتسودان وهو الآن مقيم بالسويد.
عندما تصل لقناعة تامة وحتمية بأن الحياة المثالية تنتظرك في الجانب الآخر البعيد، والتعاسة والشقاء في الجانب القريب منك فما عليك إلا التوكل على الله ونسيان كل ما هو متعلق بك في هذه الحياة لتصل الشاطيء الآخر والبعيد، أنسى وتناسى أنك موجود في هذه الحياة عندما يكون الموت والهلاك على بعد سنتيمترات قليلة منك.
نحن نسينا كل شيء وكل ما مر بنا منذ ولادتنا حتى تاريخ تلك اللحظات الأكثر صعوبة بمجرد دخولنا المياه المالحة والأمواج العاتية تسحبنا إلى الداخل ثم تلفظنا إلى الخارج، فلا شيء لأحد هناك، فأنت لا تملك حينها إلا نفسك.
كانت المعركة نفسية ومعنوية قبل أن تكون بدنية ولمدة عشر دقائق تقريباً، دخلنا بكامل ملابسنا وحقائبنا لأن تلك المركبة الصغيرة لا ترسو على الشاطيء الرملي بل لا ترسو إلا على مرافئ مخصصة لها، فنحن في وضع التهريب وفي شواطئ بعيدة ومهجورة، وإقترابهم من الساحل أكثر يعني أن محرك المركبة سينغمس فوراً في الطين والرمل ويتعطل، لذا فمن الطبيعي أن يقفوا على بعد ثلاثون متراً أو أكثر من الشاطئ وعلينا الوصول إليهم سباحة وبسرعة.
دخولي للمياه المالحة لأول مرة لم يكن مثالياً حيث شربت بعض المياه بدون قصد، وتمكنت من السباحة جيداً بمساعدة سترة النجاة حتى حافة المركبة من الجانب الأيسر لها، لأن من يسهو ويتغافل ويسبح من الخلف تجاه المحرك إن لم يموت غرقاً فسوف يموت ذبحاً وتقطيعاً بنصل مراوح المحرك الحادة والحمد لله الكل تم رفعه لسطح المركبة، فالبحارة كانوا يسحبوننا الواحد تلو الآخر عندما نقترب منهم، وصعد معظمنا بحقائبنا، إلا القلة القليلة منا تركوا حقائبهم في البحر هلعاً وخوفاً.
لاحظت أن هذه المركبة السريعة بها صندق كبير بالأسفل (مخزن) وبها فتحة بالوسط (مدخل) تراها من سطح المركبة المستوية، فقد تم تخزين أفراد العربة الأولى بالكامل هناك وبالكاد كانوا يتنفسون بينما نحن بقينا في السطح، وهذا يعني أنهم كانوا بإنتظارنا.
وجدت رفيقي علاء الدين بالقرب مني حيث قال لي أنه لا يستطيع الركض كثيراً ولكنه بارع في السباحة بينما أنا عكسه وواصل حديثه وقال لو أخبرتني من قبل أنك لا تجيد السباحة لما إحتجت إلى هذه السترة فقد كنت لأساعدك كما فعلت معي، سبحان الله إنها الحياة حيث إختلاف البشر في أشياء كثيرة عن بعضهم البعض، والإنسان يفقد شيئاً ليكسب شيئاً آخر.
إنطلقت المركبة الصغيرة بسرعة الصاروخ نحو المركبة الخشبية الأخرى التي تنتظرنا بكيلومترات بسيطة داخل البحر، يحاول البحارين الضحك على المهاجرين في هذه اللحظات الصعبة، يقولون لك أترك هاتفك وأموالك معنا وسنعيدها لك فور وصولك للمركبة التالية ولكن هيهات هيهات فمن المستحيل أن تراه مرة ثانية، وبعض السذج يصدقونهم فيفقدون هواتفهم وأموالهم بكل بساطة.
وبعد خمس دقائق إقتربنا من مركبة خشبية مخصصة للصيد فقط، ولا شيء غيره، فالمركبة الصغيرة كانت تسير بسرعة الصاروخ، لذا قطعت تلك الكيلومترات بسرعة فائقة.
إحدى أصعب مواقف الهجرة عبر البحار صعوبة والتي تحصل فيها مآسي لا حصر لها هي عملية (التحويل)، أي عندما يحول المهاجرين من مركبة لأخرى، حيث تقترب المركبتان كثيراً من بعضهما البعض لدرجة التلاصق والتصادم، ثم يقف أشخاص في حافة المركبتين لمساعدة المهاجرين في عملية التحويل، وعند قفزك من مركبة لأخرى قد تقع داخل المياه وتصبح عشاءاً للأسماك، وقد تصاب بجروح بالغة أو طفيفة، ولكن المعظم ينجو وينجح.
بعد ربع ساعة تم تحويلنا جميعاً لمركبة الصيد الخشبية وكان عددنا يقترب من المائة حيث تم تجميع كل من كان ببلطيم، مركبة الصيد الخشبية هذه بها سطح صغير وسقف خشبي واقي من الشمس، كما بها غرفة صغيرة للقيادة ومخزن سفلي كبير في وسطها مخصص للأسماك، وبالقرب منها الماكينة الكبيرة، وتتدلى الحبال الضخمة وشباك الصيد في كل جانب.
وبعد أن تم حشرنا بالأسفل داخل صناديق وأحواض الأسماك وبالقرب من الماكينة الكبيرة ونحن مبللون جميعاً والبرد تمكن منا جيداً بمساعدة صديقه الإرهاق، حتى بدأت معركتنا التالية مع (دوار البحر) الذي لا يرحم أحداً مزامنة مع تحرك المركبة.
بدوري كنت أعاني من بقايا المياه المالحة التي شربتها مسبقاً كما عانيت من دوار البحر، وكلها دقائق حتى بدأنا نستفرغ ونتقيأ ولحسن الحظ البحارة ولخبرتهم الطويلة والكبيرة جهزوا إناءاً كبيراً (جردل) لذلك وربطوه بحبل متين من الأعلى، ودار هذا الإناء بيننا طوال الليل بعضهم كان يتقيأ فوق الآخر لا إرادياً، والأمواج بدأت في لعبتها المرعبة، والإعياء والتعب إنتصرا علينا رويداً رويداً، وضاق بنا المكان وكنا ننام فوق بعضنا البعض حتى بدايات اليوم التالي أي يوم الثلاثاء 30 يوليو 2015م الموافق 13 رمضان العام 1436هـ، وعدونا اللدود دوار البحر ما زال مستمراً.
أعتقدنا جميعاً بأن هذه المركبة هي التي ستبحر بنا نحو إيطاليا، ولكنها لم تكن كذلك بالضبط لأنها فقط أوصلتنا لمركبة حديدية أخرى بعد عدة ساعات من تحركنا وقبل المياه الدولية حيث ما زلنا داخل المياه الإقليمية لمصر، لأن الوصول إلى المياه الدولية يعني عدم الخوف بتاتاً، وأنه لا مجال من العودة إلى مصر مرة أخرى، فغير مسموح دولياً تدخل أية قوات بحرية في المياه الدولية، بمعنى أنها منطقة محايدة، ولكن في مياه الدولة الإقليمية لا بأس بذلك.
هدأت الأمواج من روعها وغضبتها مع بدايات اليوم التالي، ودنونا كثيراً من المركبة الحديدية الأخرى والتي خصصت للصيد أيضاً، وقف بحارة المركبتان في أطرافهما، وجُهزت الحبال القوية للتبادل بينهما فلا بد من ربط المركبتان مع بعضهما البعض في عملية التحويل.
ولأننا مررنا بذلك في اليوم السابق فقد فهمنا ما سيحصل فيما بعد، وعلت أصوات البحارة والكل ينادي في الآخر ويملي عليه ما يجب فعله حتى كادتا أن تلتصقا ببعضهما البعض، ثم بدأت عملية التحويل.
عند عملية التحويل يصاب الناس ببعض الهلع والخوف فأي خطأ يعني السقوط في البحر العميق أو أن تصاب بجروح خطيرة أو إصابات قوية أو كسور بالغة، لذا يحول الأطفال أولاً، ثم النساء، وأخيراً الرجال، حيث يقف مجموعة من البحارة والشباب الأقوياء في طرفي المركبتان للإمساك بمعصم ويد من سيحول ثم يدفعونه بكل قوة إلى المركبة الأخرى.
هذه العملية الخطرة قد تستمر لساعة كاملة أو أكثر، ولو علت الأمواج تبتعد المركبتان عن بعضهما البعض وتعاد الكرّة والمحاولة مرة أو مرتان أو مرات عدة حتى يتم تحويل الكل، كما يُحول أيضاً المؤن والمياه الصالحة للشرب والوقود وأشياء أخرى، ولكن حولنا جميعاً وبكل سهولة في زمن وجيز فالبحر كان هادئاً.
المركبة الحديدية التي ستقلنا نحو إيطاليا كانت قوية ومجهزة أكثر من سابقتها فهي من طابقين، الطابق العلوي أي السطح به غرفة القيادة (دفة المركبة) والمجهزة بجهاز الملاحة البحرية فهو على إتصال دائم مع الشخص الكبير في مصر والذي يعرف كل ما يدور في البحر المتوسط، وباقي السطح عبارة عن أرضية خشبية قوية مع تداخل حديدي، حيث وضعت المؤن بها.
وفي الطابق السفلي نجد مقدمة السفينة والتي بها سلم صغير يؤدي للأعلى، كما توجد غرفتين صغيرتين بأسرّة خشبية صغيرة ملتصقة خُصصتا للنساء والأطفال، وبجانبهما مطبخ صغير جداً وبالقرب من المطبخ حمام صغير يستخدمه الكل وبالصفوف، وفي أمام المطبخ توجد غرفة الماكينة (المحرك) ومع غرفة الماكينة وعلى اليمين منها يوجد مخزن مياه التبريد وهو يشبه صهريج المياه وبه خرطوم ماء خصص لمياه الشرب، وعلى جانبها الأيسر وضعت بعض البراميل المليئة بالمياه العذبة والصالحة للشرب، وبعدها مؤخرة المركبة بمساحة صغيرة، بالإضافة لمخزن سفلي كبير مخصص للأسماك حيث، حشرنا فيه عبر سلم صغير في الساعات الأولى لتحويلنا.
في بادئ الأمر أي بعد عملية التحويل مباشرة مُنعنا من الصعود إلى السطح لكي لا نجلب المشاكل فبإمكان خفر السواحل التشكيك في أمرنا عند رؤيتنا جميعاً في السطح وهذا يدل على أن هنالك مهاجرين غير شرعيين والمركبة مصرحة لها بالصيد فقط، فنحن ما زلنا داخل المياه الإقليمية المصرية.
 في تلك اللحظات كنا داخل المخزن السفلي وتكومنا فوق بعضنا البعض، ودوار البحر والإستفراغ لم يتركاننا لحالنا، والمركبة تتحرك لعدة أميال بحرية تجاه الغرب.
أرسلت الشمس أشعّتها الذهبية نحو الماء بدون إستئذان وبكل هدوء لتخبرنا أن الصباح قد لاح ليمنحنا بعض الأمل والقليل من الإبتسامة، ولأننا كنا في عز الصيف فالأمواج تصالحت معنا وخرجنا من ذلك المخزن التعيس إلى السطح لنستنشق هواء البحر العليل ولرؤية أي شيء أو معلم لنحكي عنه أو نتحاكى به، ولكننا لم نرى سوا السماء ولم نستأنس إلا بالهواء ولم نستشعر إلا بالماء، لا نعرف إن كنا سنصل أحياء أم سنصبح وجبة دسمة لأسماك القرش في عرض البحر.
لم يقطع تفكيري إلا هدير محرك المركبة وهمسات الشباب فقد بدأنا في التعارف تواً، وكنت صائماً حينها، فلو قررت الإفطار فالأمر سيان، لأن الوجبة عبارة عن نصف رغيفة يابسة به القليل من حبات الفول، وفي بعض المرات يغير إلى جبن أو سمك معلب (تونة) أو قطعة طحنية.
وأحياناً يتم توزيع كرات البصل بدون أي شيء لمن يرغب بها أو يوزع بعض حبات الطماطم، وفي وقت الإفطار كنا نأكل نفس الشيء، ففي الأيام الثلاثة الأولى كنا محظوظين حيث يوزع الأكل أكثر من مرة ولكن مع دوار البحر والرطوبة العالية وتقلبات الأجواء لم نكن نستطيع أن نأكل إلا مرة واحدة في اليوم.
في الأيام الثلاث الأولى كنا مرتاحي البال والحال وكنا ننام جيداً لأننا وجدنا مساحات كبيرة للنوم حتى في منتصف النهار ومع سخونة الأجواء والشمس الساطعة والحارقة كنا نجد أماكن جيدة للنوم، والطاقم المسؤول منا كانوا مثل الإخوة وهم مصريون وبالأخص من مدن الساحل الشمالي ولهجتهم مختلفة عن باقي المدن المصرية.
وكان عددهم سبعة تقريباً فمنهم الميكانيكي والملاح والصياد وعاملونا جيداً وأذكر منهم الإخوة مصطفى وأحمد وكانوا بارعين في الملاحة، وظننا أن المركبة هذه ستدخلنا المياه الإقليمية لإيطاليا بعد يومان ولكن لم يكن الأمر كذلك بتاتاً.
في اليوم الثالث لنا بالبحر جاءت مركبة صيد خشبية أخرى بأكثر من مائة مهاجر معظمهم من الجنسية السورية وتمت عملية التحويل كالعادة، وأصبحت المركبة ممتلئة ولا توجد مساحات كبيرة لفعل أي شيء وبدأت المياه الصالحة للشرب تنفد وكذلك الطعام.
كنا نتساءل متى سنبحر رسمياً نحو الشمال الغربي ونخرج من عملية الذهاب والإياب المتكررة في خط واحد؟ ولكن لا أحد يرد علينا! فالبحارة يأخذون التعليمات ويطبقونها حرفياً بواسطة أجهزة (الثريا) المتطورة للتواصل بينهم ويتم إرسال الإحداثيات الخاصة بالإبحار لهم من مصر على جهاز الملاحة.
وغير مسموح لهم بالتحرك إلا بأوامر المسؤول الكبير لأن مخالفة الأوامر يعني تعرضهم شخصياً وكذلك أسرهم لما لا يحمد عقباه، حيث كانت المركبة تبحر نحو الغرب مائة من الأميال البحرية ثم تبحر ناحية الشرق وفي نفس المسار سبعون ميلاً بحرياً وأحياناً تختلف المسافات، أي أننا مخزنون ولن نتحرك إلا بعد إمتلاء المركبة.
كنا نرى السفن العملاقة من على البعد فهي سفن مخصصة لنقل البضائع وسفن بترولية وسفن حاويات وسفن تجارية وغيرهم بين الفينة والأخرى، تعرفت على معظم الشباب داخل المركبة ففي المساحة الضيقة التي ننام عليها كان معي الرفقاء المهندس شوقي يوسف وهو الآن ببريطانيا وشقيقه مهدي وهو الآن ببلجيكا فقد تركا المملكة العربية السعودية من أجل حياة أفضل، وكان معهم أيضاً رفيقهم الأخ إدريس دوسة وهو الآن بفرنسا وهم من أبناء القضارف والإخوة عبد الله الشبلي وعلي آدم وحسين عبد الله وآدم أبو طويلة وهؤلاء جميعاً في بريطانيا.
ومن الرفقاء الذين وصلوا بريطانيا خلاف ما ذكرتهم وينتشرون بمدن مختلفة بابكر جبالي وإدريس (جنقور) ووليد يحيى وكامل محمد وأحمد كولا وياسر تورك وعبد الشفيع إبراهيم ومحمد إسماعيل والزاكي ومحمد شريف ومحمد إبراهيم ومحمد عبد الرحيم (أبو نضارة) وياسر أحمد.
كما أذكر الرفقاء الصول مجاهد والصول عبد الرحمن وحسام بوب والصول محمد آدم ووليد الجعلي وعبد الله كسلا وأمين عبد الوهاب ومحمد الفاتح وعمار محمد (أبو طويلة) والطيب وعبد الرحمن السنوسي وآدم باقان والصول سوار وبابكر يحيى وحسن موسى وعبد العزيز علي والصول محمد إدريس وآدم الشبلي وسامي أبو دقن وعبد الله كسلا وعاكف وهم جميعاً الآن بفرنسا.
وكذلك الرفاق عبد المنعم حمزة (أرسنال) ونور العفاري ومحمد الإريتري وعبد الرحمن أبو ريماس وجميعهم الآن بالسويد، وسعيد آدم الذي ذهب لسويسرا ثم أستقر بألمانيا، وهناك من إختار النرويج موطناً بديلاً كالرفاق عبدو موتة وكرم.
في مساء اليوم الثالث وبعد أن سادت الفوضى العارمة بخصوص الطعام والشراب، فقد صمم بعض السودانيين على تكوين لجنة مهمتها توزيع الطعام والشراب ومدنا بالمعلومات التي تخص عملية إبحارنا نحو إيطاليا، وقاموا بمهتهم على أكمل وجه أذكر منهم شوقي ود السلك وأنس وياسر أحمد ومحمد إسرائيلي ووليد الجعلي وسامي أبو دقن وسالم محمد وعبد الله كسلا حتى جاء اليوم السادس.
ففي صباح اليوم السادس لنا داخل البحر جاءت دفعة جديدة وإمتلأت المركبة أكثر من ذي قبل ورجع الطاقم المصري الذي رافقنا لستة أيام مع المركبة تلك، وهنا هاج وماج الناس وقاموا بتهديد القبطان الجديد إن لم يتحرك فوراً نحو إيطاليا فسوف نحرق المركبة بمن فيها ومن عليها، لأن الإنتظار طال كثيراً.
والطاقم الجديد للمركبة الذي وصلنا تواً وأستلم دفة القيادة كان مصرياً في الخمسينات من عمره ومعه ميكانيكي (كثير الكلام)، وبعض البحارة  والصيادين.
كما كان معهم سوري تحت التمرين (تعلمجي - مساعد بحار) وهو مهاجر مثلنا، لذا لم يستحمل الناس أكثر من ذلك فقد أصبحنا في اليوم السادس، وما زلنا بالقرب من المياه الدولية وعلى مقربة من ليبيا وذلك لإبعاد الأنظار وكمية الطعام والماء شارفت على الإنتهاء.
المركبة حينها إمتلأت ولا يفصلنا عن الماء (الموت) سوى متراً واحداً، حينها وعدنا القبطان بأن هنالك مركبة أخرى ستأتي مساء نفس اليوم، وأنها في الطريق إلينا، وتحمل المؤن والوقود والمياه الصالحة للشرب، وبعدها سيتحرك بنا نحو إيطاليا فوراً.
هدأنا قليلاً طالما وجدنا أجوبة على أسئلتنا المعلقة كلها، وإنتظرنا حتى المساء وبالفعل وليس بالقول، ظهرت مركبة من على البعد وتمت عملية التحويل كالعادة رغم الأمواج العاتية وتم إنزال كل ما ذكرناه سابقاً وأيضاً أضيفت إلينا مجموعة أخرى من المهاجرين وقبل إنتهاء عملية التحويل بقليل إرتطمت مركبتنا بقوة بنظيرتها تلك وهلع كل من فيها وظننا أنها ستغرق تواً، وإرتفعت أصوات الدعاء والقرآن وترانيم الإنجيل، فقد كان الموقف رهيباً ثم أصبح كل شيء على ما يرام، وبعد ساعات حانت اللحظة التي كنا ننتظرها كثيراً فقد أبحرنا أخيراً تجاه الشمال الغربي.
نحو إيطاليا
عندما دخل علينا اليوم السابع ونحن ما زلنا بعرض البحر كان عددنا 314 شخصاً في مركبة طولها لا يتجاوز (العشرون متراً) إلا بقليل وطابقين وهي مخصصة أساساً للصيد ومن المفترض أن لا تحمل أكثر من خمسون شخصاً في الظروف العادية أو مائة شخصاً في أسوأ تقدير، ولكنه جشع وطمع المهربين، ولا تهمهم حياة الناس، بقدر ما تهمهم سحر رزم الورقة الخضراء، ولكنهم أيضاً لم يجبروا أحد على المجازفة بحياته، والكل مسؤول عن نفسه.
كنا نبحر نحو الشمال الغربي، وإختلفت جنسيات المهاجرين فقد أصبحت المركبة تحمل فوقها أمم وشعوب مختلفة من جزر القمر والعراق وفلسطين ومصر وإريتريا وإثيوبيا والصومال بالإضافة للسودانيين فكنا أكثر من مائة شخص أعرفهم جميعاً، وثاني الجنسيات عدداً كانت السورية.
كل الفئات العمرية كانت معنا أطفال رضع وأطفال يافعين ومراهقين وشباب وكهول وكبار في السن ومرضى وحوامل وكل نوع وصنف بشري، إنها مركبة الأمل والحياة.
كان لا بد من المرور بالقرب من أرخبيل الجزر اليونانية الجنوبية البعيدة دون رؤيتها بالطبع، ثم مواصلة طريقنا نحو جزيرة صقلية في أقصى جنوب إيطاليا، ولكن الوضع ليس بهذه السهولة فلا بد وأن تمر الأيام والليالي، وكانت أيام صعبة فالأمواج تحصارنا بالليل وفي مرات كثيرة كانت تدخل داخل المركبة والبرد يأخذ منا كل مأخذ.
عجباً!، لم نستحم منذ العاشر من رمضان أي قبل أكثر من أسبوع وبنفس ملابسنا!!! ما لاحظته ولاحظه غيري أن المياه المالحة مقاومة للعفن والروائح الكريهة وهو شيء كان في صالحنا ومصلحتنا فالملح في كل مكان، وتغيرت أشكالنا كثيراً مع ضربات الشمس بالنهار ومع الجوع والعطش والإرهاق النفسي والبدني ومع حمام المياه المالحة عنوة خاصة بالليل عندما يهيج البحر.
لا تستطيع فعل شيء سوى إجترار أطراف الحديث مع من حولك من الشباب، أو شرب جرعة قليلة جداً من المياه المعدنية التي جلبتها معك من مصر وتوزيعها لمن حولك، فهناك ستجد من لا يملك شيئاً سوى نفسه ونفس الشيء بالنسبة للطعام الذي معك فالتعاون مهم في تلك المواقف والظروف، كذلك كنا نقوم بمبدأ التناوب في النوم.
  والسير فوق المركبة ولو لمسافة مترين من أصعب الأمور فعليك أن تقوم بعفص ودوس أكثر من عشرون شخصاً على الأقل، وحتى لو تمكنت من ذلك أحسب حسابك جيداً بأن تتشبث وتتمسك بأي شيء وبقوة لكي لا تجد نفسك في عرض البحر بغتة.
أحياناً كانت المركبة ترتفع لأكثر من خمس أو ست أمتار ثم ترتطم بسطح البحر بقوة وكأنها ستغرق في التو واللحظة وهنا مرة أخرى ترتفع أصوات الناس والهمهمات والهمسات من الأغلبية وتعلو أصوات الدعاء وقراءة القرآن الكريم وترانيم الإنجيل بأن نصل سالمين، ويتم حشر وإبقاء الناس في زوايا معينة للحفاظ على توازن المركبة.
أذكر جيداً أن إثنين من الشباب السودانيين كادوا أن يفقدوا حياتهما فهما من أصحاب مرض السكر والكلى، وكان يأخذ مريض السكر حقن الأنسولين وإسمه عمر من شرق السودان، ولم تكن معه هذه الحقن الهامة، وكان كليهما بين الحياة والموت عندما وصلنا إيطاليا، والآخر إسمه أحمد إبراهيم أن لم تخني الذاكرة، والحمد لله على نجاتهما ونجاتنا معهم بأعجوبة، فلكل أجلٍ كتاب.
كنا نشاهد بين الفينة والأخرى الطيور المائية والتي تحلق وتصطاد الأسماك بالغريزة الفطرية التي وهبها الله لهم، ولم نفوت عروض أسماك الدولفين لأكثر من نصف ساعة بإحدى الأيام، وكذلك قفزات الأسماك الصغيرة جداً، ومنظر السفن الضخمة تضفي علينا بعض اللحظات السعيدة، ففي هذه اللحظات عليك التكيف مع كل الظروف المحيطة بك بحلوها ومرها، لا بد من التضحيات لبلوغ أسمى الغايات، ورغم صعوبة كل ذلك إلا أنني كنت متحمساً أكثر وتغمرني روح المغامرة، كنا متوكلين على رب العباد، فهو خير الحافظين.
صديقنا الأخ ياسين من جزر القمر كان خير جليسٍ للكل، وقال لنا أنه درس من قبل بالسودان ومصر وهو ملم بكل شيء، ويتحدث أربع لغات وذو ثقافة عالية، وكان محبوباً من الكل ويكسر مللنا بل كان فاكهة الرحلة، وهو الآن بفرنسا كعادة معظم المهاجرين من جزر القمر فهم يذهبون مباشرة لفرنسا من إيطاليا لعوامل وظروف عدة فقد كانت هذه الدولة الصغيرة مستعمرة فرنسية في السابق، وعددهم بالمركبة كان نحو عشرون مناصفة بين الرجال والنساء وهم جميعاً طلاب وطالبات بالسودان ومصر، وخصصت لنساء جزر القمر إحدى الغرفتين الصغيرتين ومعهن إثيوبية وسيدة سورية طاعنة في السن، بينما الغرفة الأخرى كانت للسوريات بأطفالهن ومعهن سيدة إريترية بأطفالها.
حقيقة اللجنة التي تكونت من السودانيين لولاهم لما تحركنا في ذلك اليوم، وقاموا بتوزيع الوجبات للكل على نحو عادل، بالرغم من أن الوجبة كانت نصف رغيفة يابسة فقط مع بعض الجبن فقط برفقة كوب ماء صغير فقط، خاصة في الأسبوع الأخير لنا، فقد ذهبت أيام الدلال وولت، ولكن إقترابنا أكثر وأكثر كل يوم من إيطاليا أنستنا بعض المآسي، فالحلم يقترب.
في صباح يوم الأربعاء 8 يوليو 2015م الموافق 22 رمضان 1436هـ (اليوم العاشر لنا بالمركبة) جاءتنا البشريات الجميلة والسارة من قبل البحارة واللجنة الخاصة بالمركبة بأننا إقتربنا من المياه الإقليمية الإيطالية.
حينها كان ولا بد من الإتصال بمنظمة (الصليب الأحمر) حيث لديها رقم طوارئ ثابت يعرفها المهربون تحسباً للظروف الغير معروفة والطارئة، ولكي لا نقع أيضاً بأيدي قوات خفر السواحل الإيطالية لأن معاملتهم تختلف عن معاملة منظمة الصليب الأحمر الدولي حيث يأخذون منك بصمات الأصابع بإستخدام القوة المفرطة مما يعني أن دخولك لدول أوربية خلاف إيطاليا لا فائدة منها وكلنا لا نريد إيطاليا بعد أن إقتربنا منها، بينما قبل أيام قليلة وفي عرض البحر كنا نريد أي أرض أوروبية ونبصم بها ونخرج من دائرة الموت، ولكن الوضع أختلف الآن وعلينا أن نخطو خطواتنا جيداً.
تم الإتصال بالمنظمة عدة مرات في صباحات نفس اليوم، وما زالت المركبة تبحر بنا نحو إيطاليا، وفي منتصف اليوم جاءت طائرة مائية صغيرة تابعة للمنظمة لتحديد موقعنا ولإستكشاف الأمر عن قرب، ومن بعيدة جاءت سفينة تجارية ضخمة جداً لا تتبع للمنظمة ويبدو أنها تلقت تعليمات من المنظمة بأن تحول دون تحركنا ولذا وقفت المركبة في المياه حتى تأتي السفينة الخاصة بالإنقاذ والمساعدات.
بعد أن إطمئن الناس بقرب وصولهم، بدأوا في تقطيع ورمي أوراقهم الثبوتية في البحر لأن قانون الهجرة لن يكون في صفك لأنك تملك المستندات الحكومية وغالباً سيعيدونك لدولتك، ما عدا السوريين فوضعهم يختلف بل هم أشد الناس حرصاً على الأوراق الرسمية التي تثبت أنهم من سوريا المدمرة، أنا كنت أحمل صورة من جواز سفري المفقود منذ أيامي بالقاهرة، والذي بدوره لم يكن بإسمي فقط كان به صورتي، وتخلصت منها للضمان.
أثناء ذلك أوقف محرك المركبة، وأتفق البحارة معنا بأن لا نبوح بأمرهم وأن نحفظ سرهم لأن ذلك يعني السجن لمدة طويلة حال كشفهم، وجلسوا بيننا كمهاجرين، ولكن يجب علينا أن نقول في التحقيقات بأن البحارة تم أخذهم بمركبة أخرى من قبل مركبة أخرى حديثة وكبيرة ولا نعلم وجهتها ووجهتهم.
ولكن لسوء حظهم البحار السوري لم يتخلص من جهاز الثريا، وكان هذا تصرفاً أخرقاً وغبياً، وكان عليه التخلص من الجهاز ورميه في البحر، ففيما بعد تم أخذهم لوحدهم بواسطة الشرطة لجهة غير معلومة في إيطاليا.
بعد عشرة ساعات تقريباً منذ مغادرة الطائرة موقعنا، ومنعنا من التحرك من قبل السفينة الكبرى وبالعصر، ظهرت من على البعد سفينة الإنقاذ النرويجية الضخمة.
 يا لها من لحظات رائعة وعظيمة، فسفينة الحياة والأمل لاحت وبانت فظهرت معها إبتسامات الفرح وعلامات الإنتصار، وأخيراً تحركت السفينة التجارية تاركة المجال للسفينة النرويجية المتعاونة مع منظمة الهجرة الدولية والصليب الأحمر.
إقتربت السفينة كثيراً منا ثم قاموا بإنزال قاربين صغيرين يحملان ستة أشخاص بمعدل ثلاث لكل منهما فهنالك السائق والمحقق (المصور) ورجل مسلح تحسباً للظروف، وقاموا بالتصوير لدقائق معدودة، ثم صعدوا للمركبة ووجدوا جهاز الثريا مع السوري وألقي القبض عليه وقام بإفشاء باقي البحارة الذين كانوا معه في مشهد لم يعجب أي أحد منا.
ثم تحدثوا لنا عبر مكبرات الصوت بأن لا نتحرك وأن لا نميل نحو إتجاه واحد حفاظاً على ثبات وتوازن المركبة، وألقوا علينا سترات النجاة للجميع للصغار والشباب والكبار بلا إستثناء، بعد سحب مركبتنا نحو سفينتهم ببطء شديد، ثم بدأوا بإجلاء المرضى أولاً ثم الأطفال ثم النساء وأخيراً الشباب عبر السلم المؤدي لسفينتهم الضخمة حتى أخليت المركبة من أي شخص.
صراحة لم نشعر بالأمان والإطمئنان إلا بعد أن تم إنقاذنا من قبل السفينة النرويجية، فالسفينة ضخمة جداً ومجهزة بكل شئ، وبعد الإنقاذ مباشرة أخذوا حقائبنا لحجزها ورشها بمادة مطهرة خوفاً من الأمراض المعدية ورشت أيادينا بمادة مطهرة للتخلص من الأملاح والجراثيم.
ثم وزعوا علينا المياه المعدنية وقطعتا شوكولاتة وأغطية جديدة للنوم، وأخذوا أسمائنا فالكل ذكر إسماً وهمياً على ما أعتقد، تحسباً للظروف في المستقبل القريب.
 وكل واحد منا كان لديه طوق بلاستيكي حول معصمه به رقم معين، وذلك لكي نتمكن بواسطته أخذ مقتنياتنا الشخصية عند الوصول لجزيرة صقلية.
أما بالنسبة للمركبة فقد تم إغراقها بعد رفعها بواسطة الرافعات الضخمة الملحقة والمثبتة بالسفينة النرويجية وتعبئتها بالماء المالح، ونامت في قاع البحر المتوسط للأبد بعد أدائها للمهمة الأخيرة بنجاح.
كان الطاقم الخاص بالسفينة النرويجية أكثر من ثلاثون فرداً منهم الطبيب والبحار والجندي والموظف الأممي والمترجم وما إلى ذلك من الرجال والنساء.
عندما كنا في سطح السفينة الواسعة والمريحة لم نشعر حينها بأنها تسير فلضخامتها لا تشعر بالأمواج أو بإبحارها أو بأي شيء يحصل حولك، والمسافة بين الماء وسطح السفينة أمتار كثيرة، وسرنا نحو صقلية كل الليل، وكان الشعور متعاظماً وغريباً وجميلاً فلا شيء سيعيدنا مجدداً نحو أفريقيا والشرق الأوسط.
والحمد لله كثيراً للنجاة من الفناء ومواصلة البقاء، وما هي إلا ساعات ونلامس اليابسة التي لم نرها لأكثر من عشرة أيام حتى فقدنا الإحساس بها، كما فقدت بدورها شعورها بنا.
ولادتنا من جديد في كاتانيا الجميلة 
أغلى وأفضل لحظات حياتي هي عندما رأيت اليابسة ومدينة (كاتانيا) الجميلة من على البعد وهي تكبر وتظهر أمامنا شيئاً فشيئاً حتى رست السفينة الضخمة بمينائها في جزيرة صقلية أو (سيسيليا) جنوب إيطاليا، وكان ذلك صباح يوم الخميس 9 يوليو 2015م الموافق 22 رمضان 1436هـ في اليوم (الحادي عشر) لنا بالبحر الأبيض المتوسط.
هل أنا حقاً في أوروبا وبإيطاليا العظيمة والوريثة الشرعية للحضارة الرومانية الغنية بكل شيئ؟ هل حقاً أنا بدولة الفيراري واللامبورجيني وبرج بيزا المائل ومدرج الكولوسيوم وأندية الميلان والإنتر واليوفي وروما ولاتسيو ونابولي والسباغيتي والبيتزا والموضة والمافيا والبندقية والفاتيكان وميكافيللي وبيكاسو ودانتي ومالديني وتوتي وبوفون وبيرلو وسان سيرو وكل ما هو جميل؟ لا أصدق ذلك!، ربما أحلم، فليقل لي أحدكم أنني لا أحلم، وأن كل شيء حقيقي وواقعي، والحمد لله كان واقعاً وليس حلماً، إنه الشرف الباذخ.
وفي أرض الواقع ألقت السفينة مرساتها (الهلب) الضخمة في قلب ميناء مدينة كاتانيا الجميلة بجزيرة صقلية وفي شرقها تحديداً وبدأنا ننزل رويداً رويداً الواحد تلو الآخر، والكل كان يأخذ أغراضه ومقتنياته الشخصية من خلال الرقم الذي معه في طوق معصمه البلاستيكي.
كان الإحساس غريباً عندما وطأنا اليابسة وكأنها أول مرة، وبالكاد كنا نسير كأننا خارجون من إحدى العمليات الجراحية الناجحة.
كما لاحظنا تواً كثرة وسائل الإعلام المختلفة وحديث البعض لهم، ولم نعرهم إهتماماً كثيراً، فما ينتظرنا أكثر بكثير.

تم عمل إجراءات روتينية ومملة أخرى لنا بالقرب من الميناء مباشرةً، ونصبت هنالك خيم تابعة للصليب الأحمر لأخذ بياناتنا الشخصية والتفتيش والتأكد من هوياتنا عبر الأسئلة الشائعة بخصوص شخصيتك وبلدك، وعليك المرور بعدة خيم وصفوف، ولو تعاني من مرض ما فهنالك عربة الإسعاف بإنتظارك لأخذك إلى أقرب مستشفى بالمدينة.
وهنالك خيمة في الوسط بها جهاز أخذ البصمات فهم لا يجبرونك على التبصيم خاصة موظفي منظمة الهجرة الدولية والصليب الأحمر، والإعلام قريب منهم ويصورون كل شئ، ولكن لو تم خداعك ببعض الكلمات والإشارات والحركات وبصمت فلن تستطيع مغادرة إيطاليا أو التقديم في دول أخرى، فسيعيدونك بالقانون إليها ما عدا فرنسا غالباً.
لم إنخدع بكلماتهم وتفسيراتهم تلك، وكذلك نسبة كبيرة جداً لم ينخدعوا، وبعد الإجراءات المملة والطويلة ما بين التأكد من دولتك التي ذكرتها ومن شخصيتك وفحص جوالك أيضاً وإعادته فيما بعد والكشف الطبي وخلافه، أخذ الجميع وجبات طعام متنوعة وبعض الفواكه ومياه معدنية حيث كدنا أن نموت من الجوع والعطش والإرهاق والتعب.
قبل المرور بهذه الإجراءات الروتينية بقليل أخرجت هاتفي الشخصي وإتصلت بأسرتي فلم يكن لديهم علم بأنني غادرت مصر عبر البحر حتى تلك اللحظات وكانت الأمور ستتعقد أكثر لو قلت لهم ذلك من قبل، وكانوا يعتقدون أنني سأسافر عبر مطار القاهرة وليس بالبحر، وقبل ذلك ومنذ أن كنت بالقاهرة تيقنت لخدمة التجوال الدولي جيداً وأهميتها فيما بعد، وأذكر أن شريحتي (بطاقة الإتصال) كانت من شركة (إتصالات) المصرية فلديها خدمة التجوال الدولي.
عند إتصالي بمنزل أسرتي أخبرت شقيقي الأصغر علاء الدين بأنني وصلت بخير إلى إيطاليا بغض النظر عن الكيفية والوسيلة وسأتصل بكم مجدداً بعد أيام قليلة وقطع الإتصال فجأة بعد دقيقتان فقط، والحمد لله أنهم إطمئنوا علي في آخر الأمر، وكنت مرتاح البال بعد هذه المكالمة والتي أعتبرها أهم مكالمة هاتفية في حياتي.
قوات الشرطة الإيطالية بدورها كانت مرابطة ومترابطة بالقرب من سور المخيم المكشوف، ومهمتها منعك من المغادرة أو الهروب فهنالك مركبات (بصات) سفرية ذات طابقين ستقلنا كمجموعات إلى مدن إيطالية مختلفة وكل مجموعة ونصيبها فيما سيحدث لها لاحقاً.
كان اليوم طويلاً وركب الجميع المركبات الأولى والثانية والثالثة وما تلتهم لاحقاً، وبين كل مركبة سفرية وأختها كانت تأخذ مدة طويلة من الزمن لسلحفائية الإجراءات داخل المخيمات، وبقيت أنا مع شباب آخرين بدون أسباب واضحة لهذا التصرف من قبلنا، وكنا آخر المغادرين للميناء نحو الشمال وكان ذلك مع غروب الشمس.
نحو مدينة نابولي ساحرة الجنوب
تحركت المركبة ذات الطابقين نحو الشمال ونحن نرى إيطاليا ومدنها الساحرة في الجزيرة الجميلة والكبيرة بأعيننا مدينة تلو مدينة وبلدة وراء بلدة، وريف بعد ريف، ورغم الإنهاك البدني والذهني إلا أننا كنا سعداء جداً بهذه الجولة السياحية المجانية، فبالأمس القريب والأيام السابقة لها كنا ما بين الحياة والموت.
ما زلنا نتجه نحو الشمال عبر الطريق السريع والليل يسدل ستائره فاسحاً المجال لأضواء المدن لتأخذ دورها في الإضاءة، كنت جالساً مع مجموعة من الأصدقاء في الطابق العلوي من المركبة ولاحظت أن كل بلدة ومدينة أجمل من الأخرى.
المركبة تارة تدخل في نفق جبلي، وتارة في ممر ضيق، وتارة أخرى في طريق ساحلي، وأحياناً نعبر بعض الجسور المعلقة، أو نُقاطع إحدى خطوط السكك الحديدية، أو نسير بإحدى الطرق السريعة، فدول أوروبا كلها لديها بنيات تحتية ممتازة في كل شيء، إلى أن وصلنا مدينة (ميسينا) في أقصى الشمال الشرقي لجزيرة صقلية حيث العبارة البحرية (المعدية الضخمة) التي لا بد أن ندخل فيها لكي نصل البر الإيطالي الكبير.
دخلنا داخل المعدية الضخمة والتي تستطيع أن تحمل وتستحمل عدة مركبات وعربات في آنٍ واحد، وتمر عبر المضيق المائي الضيق بين مدينة (ميسينا) في صقلية ونظيرتها (ريجيو كالابريا) في البر الإيطالي.
هذا المضيق يفصل ما بين البحر (الأيوني) والبحر (التيراني) والمتفرعان من البحر الأبيض المتوسط نفسه، وهنالك وجدنا مركبة كانت قد سبقتنا بقليل من مخيم الصليب الأحمر بصقلية.
ثم وصلنا بعد ذلك منطقة (فيلا سان جيوفاني) التابعة لريغيو كالابريا، وداهمنا الوقت بالليل وإقتربنا من صباح اليوم التالي ونحن ما زلنا نتجه شمالاً.
قبل الوصول إلى مدينة نابولي الكبيرة مررنا بمدن رائعة وبلدات قبل وعند وبعد الصباحات المبكرة، وأجمل ما يمكن أن تراه عيناك هي تلك المدن والقرى المصممة على الطراز الروماني المتين والكلاسيكي الممزوج بالحاضر.
إيطاليا كلها هي إما مدن وبلدات متناثرة هنا وهناك أو سهول خضراء أو وديان تتوسطها البحيرات الصغيرة والجميلة أو غابات مكسوة بالأشجار أو سواحل جميلة، أو جبال مخضرة بالنباتات مع مناظر طبيعية خلابة بفعل الضباب الخفيف.
شاهدنا وفهمنا خبايا وخفايا العلاقة الرومانسية الجميلة ما بين الساحل ومدنها والتي تراها من خلال الشوارع والطرقات التي شيدت على أعالي الجبال والهضاب، وأروع ما في الأمر المدن والقرى التي شيدت على الوديان في أسفل الجبال كأنها لوحة رسمت بريشة فنان عبقري في عز عبقريته ومنها مدينة (ساليرنو) الساحرة.
المركبات الأخرى التي تقل باقي المهاجرين ذهبت في إتجاهات مختلفة ولمدن أخرى، فأي مركبة لديها خط سير معين وأوامر محددة من قبل السلطات الإيطالية، لتفريق المهاجرين، ولسياسة ومنهجية معينة، وخطط مدروسة بعناية، لذلك لم نرى أصدقائنا الآخرين إلا في محطات القطارات الكبرى بمدن الشمال الإيطالي بعد أيام قليلة.

إستقبلتنا مدينة نابولي بفتور وبإبتسامة باهتة في نهار يوم الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ، وذلك لأنها أدخلتنا في التجربة الأخيرة والصعبة والتي كنا نحسب لها ألف حساب ألا وهي عملية أخذ بصمات الأصابع العشرة، ولكننا تخطيناها بصعوبة كما سنعرف لاحقاً، فبعد ساعاتٍ طويلة منذ تحركنا من كاتانيا لم تطأ أقدامنا الأرض واليابسة إلا في قسم شرطة نابولي.
أدخلنا جميعاً إلى القسم ونحن نتجاوز الأربعون فرداً بقليل حيث تم إنزال السوريين الذين كانوا معنا في مكان آخر بنابولي نفسها، وكان معظمنا من السودان مع شاب مصري مسيحي من أهل الصعيد وبعض الإريتريين والإثيوبيين.
طلبوا منا في البدء أن ندخل إلى مكاتب رجال الشرطة بالقسم فرداً فرداً وهنا رفضنا هذا الإجراء جملةً وتفصيلا، فلن نكن لندخل قبل أن نعرف بالضبط ما يدور بالداخل، وقلت للشباب أننا سنعتصم هنا في قلب مركز الشرطة إذا دعت الضرورة لذلك، فلم أقطع كل تلك الأهوال والمحن والمصاعب والمتاعب لأبصم وأعيش هنا في إيطاليا، وقرر الآخرون عدم الدخول إلى المكاتب وحصلت فوضى عارمة، وقررنا الإعتصام، ووصلت الرسالة للضباط ولكل القسم.
جاء الضابط المسؤول عن ملف اللاجئين في القسم ومعه مترجمة تجيد اللغة الإنجليزية من جزيرة سيشل أو موريشيوس لا أذكر بالتحديد، وقال لنا الضابط أنه قانونياً من المفترض أن نأخذ بصماتكم ولكننا لن نجبركم على هذا، فقط سنصوركم صوراً عادية مع أخذ بعض البيانات الشخصية وعندها فقط هدأت ثورتنا.
ولكن لم نطمئن كثيراً لهذا الكلام، وقرر صديقنا المهندس شوقي أن يدخل إليهم كأول شخص، وقال لنا أنه سيغامر بالدخول ثم يخبرنا بعد ذلك إذا ما أجبروه على البصمة أم أخذوا صوره وبياناته فقط، لأن هنالك رجال شرطة يأخذون بصمات الأصابع بإستخدام القوة المفرطة أو بالتخدير داخل المكاتب وقد حصل مع أصدقاء لنا فيما بعد.
بالفعل دخل صديقنا شوقي وخرج بعد دقائق قليلة وقال أن الضابط نفذ كلامه حرفياً، هنا فقط أعتبرت نفسي موجود فعلياً في أوروبا وليس شكلياً وعلي المضي قدماً نحو هدفي الواضح المملكة المتحدة وخاصة لندن.
حينها دخلت المكتب بكل ثقة بعد عدة أشخاص دخلوا قبلي، وخرجت بدون أن أبصم، وإكتملت الإجراءات لجميعنا قرابة الساعة، ثم أعادونا إلى المركبة ذاتها مرة أخرى، ولحسن حظنا تجولنا بمدينة نابولي الساحرة بالبص وتوجهنا نحو الضاحية الشمالية لها.
وصلنا منطقة وضاحية (دي فرانسيا) الساحرة شمال نابولي بعد الظهر، ولكم أن تتخيلوا أننا منذ مغرب الشمس بالأمس داخل المركبة ولم نقف إلا بقسم نابولي بسبب الإجراءات البوليسية تلك، وكنا مرهقين ومهلكين ومتسخين وعطشى وخارت قوانا بسبب عدم تناول أي شيء منذ اليوم السابق، وملابسنا لم نغيرها منذ أسبوعين، لكن أهم شيء هو إفلاتنا من البصمة المشؤومة فقد كان إنجازاً رائعاً.
هذا المعسكر الموجود في منطقة دي فرانسيا بشمال نابولي عبارة عن فيلا كبيرة وبها طابق علوي وساحة صغيرة خضراء، والطابق الأرضي به مهاجرين أفارقة خاصة من منطقة جنوب الصحراء الكبرى من دول (ساحل العاج - غانا - توغو - مالي - بنين - الكاميرون - نيجيريا - ...إلخ)، ولاحظنا كثرة مثل هذه المعسكرات بنفس المنطقة.
كما توجد معسكرات متشابهة بالقرب من كل المدن الإيطالية مليئة بالمهاجرين من قارة أفريقيا خاصة وبعض الدول الآسيوية والعربية، وجلهم لديهم بصمة الأصابع في إيطاليا ولا يملكون أوراقاً ثبوتية، السلطات المحلية تقوم بتسكينهم وتعطيهم يوروهات قليلة بسيطة بالإضافة لمأكلهم ومشربهم.
صراحة هذه ليست حياة مثالية من وجهة نظري الشخصية فلا فرق بينك وبين (المواشي) التي تجد الرعاية في حظائر مخصصة لها من قبل أصحابها، فأنت مقيد ولا تستطيع فعل شيء، وفي أوروبا عامة إذا لا تملك أوراقاً رسمية أو إقامة أو جنسية فعليك تركها فحياتك ستصبح جحيماً والعكس صحيح ورائع.
قام المترجم بترجمة بعض القوانين لنا باللغة العربية وهو تقريباً من تشاد أو جنوب ليبيا، ووزعت لنا وجبات إيطالية دسمة، وتم توزيعنا في الطابق العلوي كل له سريره الخاص ولكن بنفس الصالة والتي تسع لعدد كبير من الأسرّة.
هذه المعسكرات غير مراقبة جيدة ويمكنك تركها متى ما شئت والأفضل للذي ليس لديه بصمة ويرغب بدولة أوروبية أخرى تركها فوراً أو بعد يوم بالأكثر، فلو بقيت أكثر من يومان أو ثلاث ستأتي الشرطة حتماً لأخذ بصماتك لأن الإدارة الخاصة بأي معسكر تعرف من هو المبصم وغير المبصم وعادة يتصلون بالشرطة.
لذلك تحدثنا إلى المترجم برغبتنا العارمة والقوية في الخروج من هذا المعسكر بعد الغداء مباشرة، ولكنه طمئننا بأن لا نقلق وأن نغادر في صباح اليوم التالي، خاصة أن كل مقاطعات الجنوب الإيطالي بها عصابات (المافيا) وينشطون بالليل وكان الليل قد أقترب أيضاً.
ثم جلسنا في الإستراحة الخارجية نشاهد التلفاز مع الإخوة الأفارقة ونتجاذب معهم أطراف الحديث، وكانوا لطفاء جداً وعانوا كثيراً قبل الوصول إلى إيطاليا، وقطعوا الغابات والسهول والصحارى والبحار قبل الوصول إلى أوروبا عن طريق ليبيا، ولسوء الحظ هنالك الكثير منهم لديه بصمة الأصابع بإيطاليا، ومن يستطع الحصول على الإقامة بإيطاليا يترك المعسكر فوراً ويعيش حياة طبيعية كباقي البشر.
عند الغروب تم توزيع وجبة العشاء للكل، ثم صعدنا إلى الطابق العلوي وكل منا أخذ سريره ولأول مرة منذ أكثر من أسبوعين تقريباً سأنام على سرير، ويا له من نوم.
في صباح اليوم التالي وعند الإفاقة حسيت أن الدنيا تدور من حولي وبدوري شعرت أنني أدور عكسه، وأصبح رأسي ثقيلاً كأن به صخرة كبيرة، والسبب هو عدونا دوار البحر وتأثيره المستمر لعدة أيام، فقمت بتثاقل وأخذت حماماً دافئاً بالطابق الأرضي رغم الزحام والتزاحم.
ولأول مرة منذ أكثر من أسبوعين يلامس جسدي ماءاً عادياً وليس مالحاً (لا لون ولا طعم ولا رائحة)، كم كنت مشتاقاً للماء والملح بآثاره ما زال معنا كضيف ثقيل الظل، ولحسن حظي حقيبتي ما زالت بحوزتي وبها غيار نظيف وجديد وتخلصت من اللبس القديم وهذبت الذقن ونوعاً ما أحسست أنني من بني البشر.
في ساحة المعسكر وقبل الخروج أديت كل الصلوات التي فاتتني، وتم توزيع وجبة الإفطار لنا بعد وقوفنا في صف الطعام فكل شيء في أوروبا بالنظام وبالأولوية وبالصفوف والكل سواسية، ثم هممنا بالمغادرة ولكن المترجم نبهنا بأن نصبر قليلاً بسبب وجود تظاهرات وإحتجاجات لأهالي المنطقة والسبب نحن المهاجرين فخروجنا في هذا التوقيت ليس صائباً وغالباً سنتعرض لمضايقات لا نريدها حتماً ونحن ما زلنا في بداية الطريق.
وجدتها فرصة جيدة وشحنت بطارية جوالي وأخرجت المائة يورو التي أحتفظ بها من مصر فقد آن أوانها لفعل اللازم، ورتبت أغراضي الشخصية وإتفقت مع الشباب بأن نخرج سوياً إلى الطريق وأن نصل مركز مدينة نابولي فيما بعد، وشرح لنا المترجم كيف وأين ومتى نخرج إذا ما أردنا الوصول إلى سنتر مدينة نابولي (المركز) ومن ثم الإتجاه نحو الشمال لروما أو ميلان أو أية مدينة أخرى بالقطار.
بالفعل هدأت التظاهرات وخرجنا إلى الشارع العام قبل الظهر ولأول مرة نخرج بدون رجال شرطة أو موظفين أو مشرفين أو مراقبين وكأننا خرجنا من سجن ضيق بعد سنين طويلة وجافة وقاسية.
إنتظرنا في أقرب موقف بص بالقرب من المعسكر، ولأنه كان يوم سبت فالمواصلات من وإلى نابولي المدينة بالمجان، وبعد دقائق ركبنا الحافلة المحلية وبعد ثلث ساعة تقريباً نزلنا في نابولي المدينة بالقرب من إحدى محطات مترو الأنفاق.
كان القصد بالطبع هو الوصول لمحطة قطارات نابولي الكبيرة، ولكن لا بد من شراء تذكرة المترو بواحد يورو لكي نصل المحطة وهذا ما حصل، وبقينا في الرصيف لعدة دقائق حتى جاء القطار المحلي وركبنا داخله وبعد عدة محطات وصلنا محطة نابولي المركزية للقطارات.
وجدت هنالك بعض الشباب الذين أعرفهم وكانوا معي في الرحلة، قالوا لي بأن أسعار التذاكر مرتفعة حتى ميلانو لبعد المسافة وأن السعر معقول حتى روما، ولكن ما الفائدة فإذا ما أخذت القطار حتى روما فمن هناك أيضاً سأضطر لشراء تذكرة أخرى حتى ميلانو والسعر سيكون متقارباً، لذا فضلت شراء تذكرة مباشرة حتى ميلانو.
بمساعدة شاب مغربي دفعت ثمن التذكرة وكان سعرها 63 يورو وأعطيته إثنين يورو للمغربي كعمولة وتبقت معي 35 يورو فقط، علماً بأن حجز التذاكر تتم آلياً وعبر ماكينات مخصصة لها، مواعيد الرحلة على ما يبدو كانت في المساء حوالي الساعة السابعة أو التاسعة لا أستطيع تذكرها على نحو دقيق، إذاً لا بد من الإنتظار حتى المساء والوقت الآن الظهر.
كان لزاماً علي شراء بطاقة جوال (شريحة) وبواسطة أحد الأفارقة أشتريت شريحة (لايكا) المشهورة، وقمت بتنشيط خدمة الإنترنت، وكلفني ذلك مبلغ 10 يورو، وتبقت معي فقط 25 يورو، ولكن الأمر لم يكن سيئاً، فمع تذكرة قطار حتى ميلانو، وشريحة إتصالات بها خدمة إنترنت منشطة وبحزمة واحد قيقا، وفي تلك الظروف الصعبة فالأمر معقول ومقبول.
كان الجو حاراً جداً والرطوبة عالية فنحن في عز الصيف وفي جنوب إيطاليا ومناخها بحر أبيض وكأنك بإحدى مدن الدول العربية المطلة على البحار، وقمت بأداء صلاة الظهر وجمعت معها العصر بإعتباري في حالة سفر وذلك بإحدى المساجد القريبة من المحطة المركزية، ودخلت إحدى مقاهي الإنترنت مرتان، وإستطعت التواصل مع الأهل والأصدقاء مرة أخرى.
ثم تناولت وجبة الغداء من إحدى المطاعم القريبة من المحطة لأن مواعيد الرحلة نحو ميلانو في المساء وإحتفظت ببعض الطعام داخل الحقيبة لتناوله في القطار فلا مجال لشراء طعام آخر وتجولت في سوق نابولي بالقرب من المحطة.
هذا السوق ليس مرتباً ومنظماً بما فيه الكفاية خاصة ممراتها وأزقتها، ويكثر فيه الباعة المتجولين وأغلبهم من غرب إفريقيا مع بعض العرب والآسيويين والأوربيين، ولكنه سوق مليئ بكل ما تريده وما لا ترغبه وهو ضخم وواسع، وأذكر أنني أشتريت حزاماً من أحد الأفارقة بعد أن تلف حزامي القديم بالبحر.
مغادرة مدينة نابولي كلياً والمليئة بالأجانب كان في مساء يوم السبت 11 يوليو 2015م الموافق 24 رمضان 1436هـ وعند الموعد تماماً صعدت على متن القطار ومعي بعض الشباب من مدينة كسلا بشرق السودان وإريتريا وأذكر منهم الأخ سعيد آدم وهو الآن بألمانيا بعد أن ترك سويسرا، وكذلك الأخ عبد الرحمن أبو ريماس وهو الآن بالسويد، ومحمد نور وهو الآن بإحدى الدول الإسكندنافية وبعض الشباب الرائعين.
في الغرفة (القمرة) التي كنت بها بالقطار الأنيق لم يكن معي أي أحد، لذا تمددت جيداً ونمت قليلاً وذلك بعد مرور (مفتش التذاكر) وسلامة موقفي تنفست الصعداء فما يهمه التذكرة التي معي وأن تكون سارية المفعول وليس بالضرورة الأوراق الرسمية.
إيطاليا هي نفسها شمالها كجنوبها كوسطها جميلة وأنيقة ورائعة مخضرة ومتحضرة وإن كان الشمال أكثر رقياً وجمالاً من الجنوب، وأقصد بهذا الكلام أن المشاهد الخارجية التي رأيتها من نافذة القطار تكررت معي بين الحين والآخر حتى وصولي لميلان الجميلة صباح اليوم التالي.
ميلانو مدينة الموضة والرياضة والمال والأعمال
كما هو مدون في التذكرة فقد كان الوصول لمدينة ميلانو في صباح يوم الأحد الموافق 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ عند الساعة السابعة صباحاً، حيث غادرنا المحطة الداخلية للقطارات، فهناك فرق بين المحطة الداخلية لميلان والتي تربطها بباقي مدن إيطاليا وبين محطة ميلان الكبرى والتي تربطها بباقي الدول الأوروبية.
قمت بأخذ بعض الصور التذكارية في ميلانو كما فعلت من قبل في نابولي وكما سأفعل فيما بعد مع كل المدن الإيطالية والأوروبية، وسرنا على أرجلنا حتى محطة ميلانو الكبرى للقطارات الأوروبية، لتدبير حالنا وأحوالنا.
ميلانو مدينة جميلة جداً ومنظمة وبها حدائق ومساحات خضراء جميلة ومباني حديثة وكلاسيكية، وبها أجناس وشعوب من مختلف دول العالم والحديث عنها شيق وجميل.
بميلانو كان لا بد من السؤال عن شارع يسمى هناك بشارع الحبش أو (الحبوش) وهي تسمية مجازية لوجود محلات ومطاعم خاصة بالإخوة الإثيوبيين وهنالك محلات تابعة للسودانيين والإريتريين فلا بد من الوصول إليهم لإستلام التحويلات المالية من الدول الأخرى.
وجدنا بعض الشباب بالقرب من المحطة الكبرى، دلونا على شارع الحبوش هذا، ولم يكن الشارع المعني بعيداً عن المكان الذي كنا نقف فيه (المحطة الكبرى)، وجاء إلينا رفيقنا محمد الإريتري وأصطحبنا حتى ذلك الشارع فقد زاره من قبل.
هناك إلتقيت مرة أخرى بصديقي الصول محمد آدم وكان يريد أي شخص أن يكون رفيقه تجاه مدن تورينو وجنوا وأخيراً فنتميليا الحدودية مع فرنسا، قلت له أن يصبر قليلاً حتى أتحصل على بعض المال فما معي لا يكفي لشيء وأصر علي بأنه سيتكفل بكل شيء حتى نصل الحدود معاً، بدوري شكرته وأصريت على تدبير بعض الأموال، فالظروف غير معروفة.
إتصلت بقريبي أحمد محمد بشير في النرويج لتحويل بعض المال لحوجتي الماسة إليه، كالعادة لم يتأخر كثيراً، ولكن كان علي البحث عن شخص ما يملك وثائق رسمية ليحول المبلغ بإسمه فوراً.
ذهبت إلى محل يمتلكه سودانيين بشارع الحبش ولكنهم لم يعطوني رداً شافياً ووافياً وأصبح الموضوع معلقاً عندما قلت لهم بأنني إحتاج لشخص لديه أوراق ثبوتية، وطبعاً كل ذلك بالعمولة وهم يعملون ويعلمون بذلك، ولكني فقدت الأمل فيهم.
ثم دلني أحد الشباب على إريتري يفعل ذلك ويأخذ 10 يورهات لكل 100 يورو وافقت على مضض والعمولة كانت كثيرة نوعاً ما، ولكن شيء أفضل من لا شيء، وقبل ذلك بقليل أصرينا أنا ورفيقي أن نتذوق طعم البيتزا الإيطالية من مطعم يملكه مغربي.
بعد نصف ساعة حول قريبي مبلغ (207 يورو) بإسم الإريتري، ولكن الكود الخاص (الرقم السري) بالحوالة معي، فلن أعطيه إياه إلا داخل مكاتب تحويلات (ويسترن يونيون) للضمان فأنا لا أعرفه، وفي الختام صرف المبلغ وأستلم 20 يورو خاصته، وأصبح معي 200 يورو تقريباً بإضافة المبلغ الحالي 187 يورو مع ما تبقى معي في جيبي.
ثم ذهبت مع رفيقي إلى محطة القطارات الكبرى، ولكن بعد البحث والتدقيق وقبل فعل شيء نندم عليه مستقبلاً عرفنا أن السلطات المحلية قد فرضت رقابة شديدة على القطارات المتحركة من المحطة المركزية نحو المدن الإيطالية والأوروبية.
فمن هناك يمكن للمهاجرين الذهاب إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا والنمسا ولكن حكومات تلك الدول تعيدك إلى إيطاليا مرة أخرى أو تأخذ بصمات الأصابع إن كنت سيء الحظ، لذا يسلك المهاجرون طرق تهريب عدة لمغادرة إيطاليا مثل العربات الخاصة والبصات السفرية وما إلى ذلك.
وكانت الرقابة قد فرضت أيضاً على المهاجرين الراغبين في الوصول إلى مدينة (فنتميليا) الحدودية مباشرة لذا فكرنا في حجز تذكرتين حتى مدينة (تورينو)، ومرة أخرى وبمساعدة شاب مغربي قمنا بشراء التذاكر لمعرفته باللغة الإيطالية مع أخذ عمولته طبعاً، وقال لنا أنه يعرف أحد المغاربة بإمكانه مساعدتنا في الدخول إلى فرنسا من مدينة فنتميليا وتبادلنا الأرقام لعلنا ندخل فرنسا بواسطته.
القطار بدوره لن يتحرك إلا عصر ذلك اليوم ونحن ما زلنا في منتصف النهار فإلتزمنا مقاعد الصبر على ذلك فلا خيار آخر لدينا، وأن العصر لناظره قريب.
ثم تجولنا قليلاً بالمدينة الجميلة لقتل الوقت وخاصة المعالم القريبة من المحطة المركزية الكبرى ووجدنا بعضاً من أصدقائنا الذين فارقناهم في كاتانيا منذ أيام، وأدينا بعض الصلوات بجوار المحطة، لاحظت أن الإيطاليين لديهم حنفيات (صنابير) مياه شرب عزبة في الشوارع والحدائق العامة بمعظم المدن، وهذا ما لا نجده غالباً في كل دول ومدن أوروبا تقريباً، فــــورزا إيتـــلي.
تورينو المدينة الجميلة والصناعية لإيطاليا
في الموعد تماماً وبالثانية صعدنا داخل القطار المتجه إلى تورينو والمدينة ليست بعيدة جداً وتقريباً بعد ثلاث ساعات أو أقل أن لم تخني الذاكرة، ولكننا إرتكبنا خطئاً غريباً في البداية، حيث جلسنا في العربة الخاصة (الدرجة الممتازة) وليس في مقاعدنا بالدرجات العادية كما فعلنا من نابولي لميلانو، لذا دفعنا مبالغ إضافية لمفتش التذاكر داخل القطار المتحرك، وواصلنا حتى تورينو بعد الوقوف ببعض المحطات ما بين المدينتين.
في مساء يوم الأحد الموافق 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ وصلنا تورينو قبيل الغروب بساعة تقريباً، خرجنا من محطة تورينو الجميلة والحديثة، تجولنا بالخارج قليلاً وحجزنا تذاكرنا لمدينة جنوا بمساعدة إحدى السيدات، لأن حجوزات التذاكر بواسطة ماكينات آلية كما ذكرت سالفاً، وإنتظرنا في الرصيف الخاص بالقطار المعني قليلاً.
للمرة الثانية نرتكب الخطأ، حين صعدنا بإستعجال غير مبرر على متن قطار سيقف بعد 3 كيلومترات فقط تقريباً في محطة صغيرة تابعة للمحطة الكبرى بتورينو، وهنا شعرنا بالضيق والغيظ والضجر واللا مبالاة، فقد خسرنا ثمن التذاكر والقطار المتجه إلى جنوا تحرك فوراً، والفارق بينهما كانت دقائق معدودة.
خرجنا إلى الخارج من تلك المحطة الصغيرة لكي نستفسر عن بعض المعلومات في كيفية الذهاب إلى مدينة جنوا، ولكن علينا أولاً إيجاد شخص يتحدث اللغة العربية وتمنينا أن نلتقي بأحد السودانيين.
وجدنا شابان صوماليان أحدهما يتحدث اللغة العربية بصعوبة وبالفصحى، قال لنا بأن هنالك سوداني يسكن في الشارع الثاني من هنا وذهبنا إلى هناك، ولكن وجدنا ساحة كبيرة بها موائد الإفطار أعدها الإيطاليين للمسلمين كنوع من الترابط والتكافل، وتبقت دقائق قليلة ويؤذن المؤذن للمغرب، ولم نجد السوداني هناك ولا حتى في المحلات التجارية والشوارع القريبة كما وصفوا لنا.
قلت لرفيقي بأن نستغل عربة أجرة (تاكسي) حتى مدينة فنتميليا مباشرة، وأول سائق تاكسي طلب منا مبلغ 300 يورو، والآخر رفض لبعد المسافة ودخول الليل، وثالثهم طلب مبلغاً كبيراً أيضاً، لقد كنا في ورطة كبيرة والليل مقبل علينا، ولا مكان ننام فيه، فأين وما هو الحل؟.
إقترحت عليه أن نعود إلى المحطة الصغرى تلك لنلحق بأي قطار متجه إلى المحطة الكبرى ومنها إلى مدينة جنوا ولن ندفع هذه المرة بتاتاً وليحصل ما يحصل، وعادة في إيطاليا وفرنسا المراقبة والتفتيش على القطارات تكاد تكون معدومة خاصة القطارات ما بين المدن، وليس ما بين الدول فهناك فرق.
لحسن حظنا صعدنا داخل القطار بعد دقائق معدودة، ووجدنا أحد الشباب العاجيين تبادلنا معه أطراف الكلام بالإنجليزية البسيطة وحكينا له ما حل بنا وما نريد فعله، قال لنا بأننا محظوظان لأن هذا القطار متجه إلى مدينة جنوا بالتحديد ولا توجد رقابة عليه بهذا التوقيت، وكانت فرحتنا كبيرة ولاحظت أن القطار كان خالياً إلا من القليل، وأخيراً سنذهب إلى جنوا وبدون شراء تذاكر وكأنه تعويض للتذاكر السابقة ومضينا في إتجاه جنوا.
جينوفا أو جنوا الساحلية أنيقة الشمال 
وصلنا جنوا مساء يوم الأحد 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ بعد معاناة طويلة ومشقة كبيرة، وذلك بعد توقف القطار ببعض المحطات ما بين مدينتي تورينو وجنوا (جينوفا)، وكان آخر قطار يتحرك إليها لحسن حظنا في ذلك اليوم.
خرجنا من محطتها الجميلة والعريقة نلتمس مكاناً ننام فيه وقبل ذلك نتناول وجبة العشاء لأن القطارات المتجهة إلى فنتميليا لن تأتي إلا في صباح اليوم التالي.
بالخارج وجدنا شابين من تونس في مطعم قريب من المحطة وتبادلنا أطراف الحديث معهما أيضاً ودلنا أحدهم على مسجد قريب من مكاننا، حيث يمكننا أن ننام فيه حتى وقت صلاة الصبح، وبالفعل ذهبنا إلى المسجد بالوصف، وجدنا الباب مفتوحاً وكان المسجد أسفل إحدى المباني السكنية داخل حي قريب من المحطة.
أدينا الصلوات التي علينا ووجدنا الكثير من الفواكه والعصائر والحلوى والفطائر والمياه المعدنية فقمنا بالواجب معهم، وواصلنا النوم حيث لم يقيموا صلاة التهجد ذلك اليوم!.
عند صلاة الفجر جاء إمام المسجد والمؤذن وعرفا بأمرنا وتركانا لحالنا بعد تقديم بعض النصائح لنا، وكان الإمام مغربي الأصل والمؤذن من غرب إفريقيا، ولكن قالوا لنا بأن نغادر بعد شروق الشمس مباشرة وهذا ما كنا نحتاجه.
في الصباح وجدنا في قبو المسجد حمامات للإستحمام بجانب دورات المياه، وللمرة الثانية أأخذ حماماً دافئاً منذ دخولي إيطاليا، ثم خرجت مع صديقي إلى محطة القطارات وأخذت بعض الصور التذكارية بالشوارع القريبة، فهذه المدن تجذبك إليها جذباً.
وجدنا في المحطة رفيقنا الآخر الأخ أحمد كولا، وكان قد أعيد من فرنسا قبل ساعات، حيث كان قريباً من باريس بعد أن تمكن من شراء التذاكر من ميلان إلى باريس، ولكن لأنه لا يملك أوراق ثبوتية بإعتباره مهاجراً مثلنا، أعيد إلى ميلان، ومن هناك أخذ تذكرة إلى جنوا وكان يريد الذهاب إلى فنتميليا الحدودية مثلنا فأصبحنا ثلاثة بدل إثنين.
كان علينا الإنتظار ساعتان حتى موعد القطار لذا خرجنا نتجول بالقرب من المحطة بعد شراء التذاكر، وتناولنا وجبة الإفطار بإحدى المطاعم القريبة، وعدنا أدراجنا إلى المحطة قبيل إنطلاقة القطار بنصف ساعة.
في المحطة تمت مسائلتنا من قبل شرطة المدينة، وطلبوا منا أوراقاً ثبوتية فقلنا لهم نحن مهاجرون ومعنا تذاكر رسمية، فعرفوا أننا نريد الذهاب إلى فرنسا عن طريق الحدود لذا تركونا في حالنا، وجاء القطار في موعده تماماً وتحركنا نحو آخر المدن الإيطالية، مدينة فانتميليا الجميلة.
فنتميليا فاتنة البحر الليغوري
إذا أردت أن تعرف عظمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه أبدع كل الإبداع في خلق الجمال وكل ما هو جميل فما عليك إلا بشراء تذكرة قطار من مدينة جنوا (جينوفا) في أقصى الشمال الغربي بإيطاليا إلى مدينة فنتميليا.
مهما قلت وتحدثت ووصفت وسبرت أغوار المدن والبلدات والسهول والمراعي والبحيرات وساحل البحر الليغوري (المتفرع من البحر الأبيض المتوسط في أقصى الشمال) وعن تناسق خطوط السكك الحديدية والتي تمر ما بين البحر والجبال والمدن فلن أستطيع ذلك وسأجني عليهم كثيراً بقلمي إن لم أستطع الوصف.
هنالك فقط فهمت لماذا أسعار تذاكر القطارات في أوروبا أغلى من أسعار الطيران، الإجابة بسيطة وهي أن السفر في ثقافة الأوربيين سياحة وترفيه وإستجمام ومتعة وأنا أتفق معهم في ذلك وأحب السفر بالقطارات لهذه الأسباب، هذه الفوائد أيضاً ذكرها الإمام الشافعي (رحمه الله تعالى).
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج همٍّ، وإكتساب مــعيشة وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
فإن قـيل في الأسفار ذُلٌّ ومحنـة وقطع الفيافي وإرتكاب الشدائد
فـموت الـفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واشٍ وحـاسد
بعد كل تلك المشاهد الطبيعية الخلابة توقفت عجلات القطار بكل إنسيابية وهدوء في المحطة الصغيرة بالمدينة، وكان ذلك في صباح يوم الإثنين 13 يوليو 2015م الموافق 26 رمضان 1436هـ، وهي المحطة الأخيرة لنا قبل الدخول إلى فرنسا الجميلة والمبهرة، لكن تمهل فليس الأمر بهذه السهولة، فهنالك ما هو مثير وقادم.
ما يحسب لنا أن هنالك معسكران مفتوحان للمهاجرين في هذه المدينة الساحلية الجميلة والصغيرة، أحدهما بالقرب من المحطة تابعة لمنظمة الصليب الأحمر والأخرى بالقرب مع الحدود الفرنسية وتابعة للحزب الشيوعي الإيطالي.
نحن فضلنا المعسكر القريب من المحطة، ولكن عليك تسجيل إسمك أولاً عند موظفي ومسئولي المعسكر لكي تأخذ ورقة صغيرة بها شعار وختم منظمة الصليب الأحمر وبعض البيانات، ولكي تستطيع الدخول والخروج بها متى ما شئت من المعسكر ولكن عليك أن لا تتأخر حتى الساعة الثانية عشر منتصف الليل لأنهم لن يسمحوا لك بالدخول، وعليك تدبر أمرك فيما بعد.
المعسكر كان نشطاً ومليئاً بالمهاجرين، به وجبتان منتظمتان يومياً وحمامات نظيفة ومجهزة وأسرّة للنوم وأماكن لشحن الجوالات ومغاسل ...إلخ، وفوق كل هذا وذاك لا أحد يزعجك ولا يستطيع ذلك، والشرطة بنفسها تقوم بحراسة المعسكر، صراحة كان معسكراً نموذجياً، أحتجنا إليه كثيراً.
ثم قمنا ثلاثتنا بجولة صغيرة داخل المدينة الجميلة وذهبنا نحو الشاطئ الذهبي ووجدنا عدة سياح يقومون بالإستجمام ويستمتعون بوقتهم، بدورنا أخذنا بعض الصور التذكارية، ثم إحتسينا القهوة الإيطالية المشهورة بإحدى المقاهي التي تطل على الكورنيش القريب من البحر.
وفي الجانب البعيد من المدينة والقريب من الحدود الفرنسية ملأنا أعيننا بسحر الجزيرة الخلابة والمليئة بأشجار الصنوبر والطيور المائية، وبالقرب منها المراكب الشراعية وبعض اليخوت الكبيرة والصغيرة، والضباب يحفها من بعض الجوانب، وكانت هذه الجزيرة غاية في الجمال والخضرة ولم نمل من روعتها.
ثم عدنا بعد ذلك إلى الحديقة التي خلفنا وجلسنا هنالك، وللصدفة الجميلة، وجد رفيقنا أحمد كولا تونسياً لا أذكر إسمه ومصرياً إسمه الشرقاوي كانا معه على متن القطار المتجه إلى باريس من ميلان وأعيدوا جميعاً لميلان كما أسلفت.
بعد مصافحتهم قلنا لهما بأننا نريد الدخول إلى فرنسا عن طريق أحد المهربين، فهم يعرفون الكثيرين منهم، وإذا ما حاولنا الدخول إلى مدينة (نيس) الفرنسية القريبة من فنتميليا عن طريق القطار لوحدنا فالشرطة الفرنسية ستعيدنا بنسبة كبيرة لفنتميليا.
حتى لو ذهبنا إلى المدن القريبة من نيس مثل (كان) أو (مارسيليا) أو أية مدينة أيضاً سيعيدوننا وتضيع جهودنا هدراً وسدى والقليل جداً ينجح في ذلك، ومن هنالك أيضاً عليك إستغلال القطار إلى باريس لمدة 9 ساعات تقريباً، إذاً علينا كسب الوقت والجهد والذهاب إلى باريس مباشرة من هنا قبل العيد.
ولكن عملية التهريب مباشرة تتطلب بعض المال وما معي لا يكفي بسبب التذاكر الكثيرة التي قمنا بشرائها منذ مغادرتنا ميلان إلى فانتميليا، لذا قمت بالإتصال بعمي في لندن ماهر إبراهيم (عليه الرحمة والمغفرة) وبإبن عمتي ياسر محمد بشير ليقوما بالتحويل المالي فوراً.
وهذا ما حصل بالضبط، فقد وجدت شخص ما من الجنسية المغربية ويحمل أوراقاً ثبوتية يقوم بإستلام المبالغ المحولة بإسمه ولكن مقابل عمولة بسيطة، ذهبت معه لشركة التحويلات القريبة من مكاننا وأستلمت المبلغ وكان مجموع ما معي تقريباً 300 يورو.
باقي الشباب أيضاً قاموا بتدبير المبالغ الخاصة بهم للسفر، ولكن باءت كل محاولاتنا للخروج بالفشل في نفس اليوم، وقمنا بعدة إتصالات مع بعض المهربين، منها مع المغربي الذي أخذت رقمه من المغربي الآخر بميلان ولكنه لم يعطينا أجوبة مقنعة فصرفنا النظر عنه.
وبالرغم من أن مدينة فانتميليا هي مدينة المهاجرين واللاجئين والمهربين بإعتبارها مدينة حدودية لم ننجح في اليوم الأول ولم نشعر باليأس فحتماً سنمر وسنعبر الحدود عاجلاً أم آجلاً.
نصحنا أحد المهاجرين بأن نذهب للمعسكر الآخر فهناك يقومون بمساعدات أكثر وبتوزيع خرائط بها طرق التهريب، ولكن عليك أن تفعل ذلك بنفسك للدخول إلى فرنسا، كما أن الشرطة الفرنسية ستعيق تقدمك، أنا لم أقتنع بذلك وفضلت البقاء بنفس المكان لليوم التالي.
قبل الإفطار بقليل نشطت إحدى الجمعيات الخيرية المسلمة بالقرب من المحطة لتوزيع إفطار رمضان، ولكن بصورة منظمة وعليك الوقوف في الصف لأخذ وجبتك فكل شيء في أوروبا بالنظام وبالأولوية، وكان الأمر عادياً علينا فللمرة الثانية نقف في الصفوف لكي نأخذ وجبة مثلما فعلنا بنابولي نفس الأمر، فالكل سواسية في هذا وهو شيء نفتقده بشدة في دول العالم الثالث.
بعد الإفطار ذهبنا للمعسكر من أجل أن نقوم بشحن جوالاتنا الشخصية وبالإستحمام والصلاة، وحجز الأسرّة إستعداداً للنوم بعد يوم طويل ومرهق، كما ينتظرنا يوم مرهق آخر.
كما إلتقيت بمعظم رفقاء الدرب وأصدقاء الطريق، كل يحكي تجربته الخاصة، وكيف وصل من كاتانيا في صقلية حتى فانتميليا، ولسوء الحظ هنالك بعضهم قد أجبروا على التبصيم بإستخدام القوة المفرطة أذكر منهم صديقنا عبد الله ود كسلا.
في صباح اليوم التالي أي في يوم المغادرة (غادرنا في مساء نفس اليوم) أقصد هنا الثلاثاء الموافق 14 يوليو 2015م الموافق 27 رمضان 1436هـ، دب النشاط في عروقنا بعد نوم عميق ولكن آثار دوار البحر ما زال معنا ففي كل مرة عندما تخلد إلى النوم وتصحو منه تشعر كأنك مصاب بالدوار ولدقائق معدودة فمدة إحدى عشر يوماً داخل البحر ليس بالأمر بالسهل ثم أن عدونا الآخر الإرهاق لم يفارقنا بعد.
ذلك النشاط الذي أقصده لم يأتي من فراغ بل بسبب إهتمام المسؤولين والمشرفين والمراقبين على المعسكر بنا، أخذنا حماماً دافئاً ثم وجبة إفطار دسمة لأن إيطاليا لديها مطبخ ربما هو الأفضل في العالم.
قمت هذه المرة بأخذ ورقة بإسمي لأني بالأمس دخلت عن طريق ورقة لشخص آخر كان قد تركها لأحد أصدقائي وغادر إلى فرنسا ولولاه لما أستطعت البيات بالمعسكر لأن تسجيل الأسماء يتم في وقت مبكر ونحن عندما وصلنا بالأمس كان التسجيل قد فاتنا.
لاحظنا أن أحد المهاجرين كان يدون أسماء من يريد المغادرة اليوم إلى باريس بواسطة شاحنة كبيرة تابعة لمهربين من تونس والمبلغ المتفق 100 يورو وقمنا بكتابة أسمائنا ووقت المغادرة بعد الإفطار مباشرة، ولكن لم أقتنع بذلك الأمر وقلت لرفاقي بأن نقوم بالبحث عن طرق أخرى وعدم قفل الأبواب كلها.
بعد ذلك تجولنا مرة أخرى داخل المدينة الجميلة ومرة أخرى ذهبت لتناول وإحتساء القهوة من نفس المقهى تلك، ثم توقفنا في الحديقة ذاتها وقابلنا المدعو الشرقاوي مرة أخرى، قال لنا بأن هنالك عربة خاصة ستأتي بعد صلاة العشاء ولن تحمل معها أكثر من 8 أشخاص ومن هنا إلى باريس مباشرة وكل واحد عليه دفع 270 يورو تقريباً، قلنا له أن المبلغ كبير وبعد شد وجذب أتفقنا على مبلغ 220 يورو لكل واحد منا، وفي الحقيقة هذا مبلغ معقول لأننا سنذهب مباشرة إلى باريس والدفع بعد الدخول إلى بلدية باريس، في نفس الوقت لم نقفل باب المائة يورو ذلك.
بعد الإفطار مباشرة هذه المرة داخل المعسكر وإكماله فيما بعد عند المحطة مع الجمعية الخيرية وذلك لنكون قريبين من مناطق التهريب ولمعرفة آخر أخبار التهريب، فجأة جاء أفراد جدد أصولهم من تونس والمغرب وتشاد والجزائر ومصر وجنسيات أخرى لكسب ود المهاجرين فالمال كان مغرياً للكل.
كما قلت سابقاً فهذه المدينة مرتع للمهربين، نحن في البدء ذهبنا مع المهاجرين الذين كتبوا أسمائهم صباح اليوم وسيدفعون مائة يورو فقط، وبعد ساعة كاملة سيراً على أقدامنا تخطينا محطة القطارات والسكك الحديدية وبعض الأحياء السكنية والطرق حتى وصلنا غابة صغيرة أسفل جسر ضخم.
وجدنا أشخاص من الجنسية التونسية هم من سيقومون بتهريبنا ولكنهم طمعوا بنا وفينا، فعندما رؤوا العدد الكبير من المهاجرين رفعوا السعر إلى مائة وخمسون يورو بدل مائة يورو كما كان متفقاً.
رجع البعض بعد التنصل من الإتفاق السابق من قبل المهربين، نحن ترددنا هل نذهب أم لا ثم قررنا عدم المجازفة فهؤلاء ليسوا أهل ثقة خاصة بسبب نقض الإتفاق وأن نذهب مع المدعو الشرقاوي.
عدنا بعد ساعة إلى المحطة وعندما نظرنا تجاه المعسكر وجدنا تجمعاً كبيراً للشرطة على بابه مما أثاروا مخاوفنا، فوراً قمنا بالإتصال بالشرقاوي وحدد لنا مكان السيارة، وذهبنا خلسة إلى هناك، ووجدنا العربة في نفس المكان المحدد وبالقرب من الجزيرة تلك، وتم تجميع المهاجرين الراغبين إلى السفر نحو باريس مباشرة وكان عددنا 8 أشخاص إثنان من تونس وواحد إثيوبي ونحن خمسة سودانيين حيث كنت أنا وأصدقائي أحمد كولا ومحمد آدم ومحمد إسحق وسوداني آخر قادم من ليبيا.
كانت العربة من نوع الحافلات الصغيرة ميكروباص أو (ميني باص)، أزيلت المقاعد الخلفية فهي تستخدم لنقل البضائع، كل واحد منا أخذ مكانه، وأتفقنا على أن نسلمهما المبلغ (كانوا تونسيان) بعد الوصول إلى باريس.
ولكن قمنا بحسبة وعد المبلغ أمامهم ليطمئنوا وأطمئنوا، ثم تحركنا نحو باريس بالليل، حيث تنتظرنا عشرة ساعات كاملة ومرهقة، وبعد مدة تجاوزنا الحدود الإيطالية الفرنسية نحو باريس مباشرةً.
كل الجمال في باريس
الوصول لباريس كان في صباح يوم الأربعاء الموافق 15 يوليو 2015م الموافق 28 رمضان 1436هـ وقبل الوصول أحد الإخوة التوانسة الذي كان معنا نزل بمدينة نيس جنوب فرنسا.
كما توقفنا بإحدى محطات الوقود للتزود بها بمنتصف المسافة ودفع كل واحد منا 20 يورو على أن ندفع 200 يورو بعد الوصول إلى باريس مباشرة وهذا ما حصل معنا بالضبط، حيث قرأنا اللافتات الخاصة بأننا في باريس، وتم إنزالنا بالقرب من إحدى محطات مترو الأنفاق التي توصلنا لمحطة غار دي ليون الكبيرة بوسط باريس.
قمت بشراء تذكرة المترو بسبعة يوروهات لأن المسافة بعيدة بين هذه المحطة ووسط باريس وإتفقنا على أن نجلس إثنين إثنين في كل عربة مترو، أنا ومحمد آدم جلسنا معنا، بينما جلس أحمد كولا ومحمد يعقوب سوياً في قسم آخر بنفس قطار المترو، والآخرون جلسوا بأقسامٍ أخرى ولكن لم نلتقي بهم إلا في المحطة الأخيرة.
وصلنا المحطة الكبيرة بقلب باريس (غار دي ليون) بعد أكثر من ساعة لأن القطار كان يقف في محطات كثيرة جداً، نزلنا هناك وإستفسرنا عن شارع (لا شابيل) والقابع بوسط باريس لأنه شارع خاص بالسودانيين حتماً ولا بد سنمر عليه.
فهنالك أشخاص لا بد وأن ألتقي بهم منهم العم سيف الفقير الذي لديه مطعم شهير إسمه (سنتر الخرطوم) وكان في الماضي يقيم بمدينتنا في شمال السودان (كرمة) والكل يعرفه في باريس.
كما كنت أبحث عن قريبي الأخ بخيت أحمد بخيت، في البدء تُهنا قليلاً نحن الأربعة ما بين محطات المترو ومعالم باريس الضخمة والكلاسيكية حتى أرشدونا بعض الإخوة من تونس على شارع لا شابيل ووجدنا أنفسنا هناك بعد مدة طويلة ومرهقة.
لا شابيل هذا يذكرك بمنطقة (السوق العربي) في قلب الخرطوم بالسودان، فهنالك مطاعم ومتاجر سودانية ومسجداً كبيراً، ويعد تجمعاً لكل السودانيين أي عليك به إذا أردت مقابلة أي سوداني أو إريتري أو إثيوبي أو تشادي في باريس.
وفي نهاية الشارع كان هنالك معسكر خارجي مفتوح فوق الشارع لإحدى المنظمات الدولية حيث مراتب النوم مرصوصة فوق الأرصفة وبه خيمة مكشوفة من الأعلى مخصصة لتوزيع المعلبات والمشروبات العادية والغازية والفواكه والحلوى والجبن والبسكويت وغيرها.
وجدت هناك معظم الشباب والرفاق الذين فارقتهم في مدن إيطاليا المختلفة، كما تمكنت من مقابلة العم سيف الفقير وإتصل بدوره بقريبي بخيت والذي إستضافني وضيفني معه بمسكنه الصغير إحدى عشرة يوماً.
في نفس اليوم ذهبنا مع الجميع إلى حديقة كبيرة مجاورة لشارع لا شابيل وتقع بعد خطوط السكك الحديدية، حيث مكان الإفطار الجماعي لمجموعة كبيرة من المسلمين والتي أعددت وجهزت من قبل منظمات وجمعيات خيرية في باريس.
بعد الإفطار وجدت قريبي بخيت ومعه صديقه الأخ مجاهد وذهبنا لمسكنهم في حي (غريبالدي) الشعبي مستغلين قطارات مترو الأنفاق.
هنالك إلتقيت بشباب رائعين وأذكر منهم الإخوة عمر برونتو والمعز بوب وعبد السلام ويوسف كبروا ونزار ومصعب وغيرهم وأستقبلوني جيداً بالرغم من ضيق المكان، فالمسكن بدون إيجار.
اليوم التالي لي بباريس كانت وقفة العيد وتوديع شهر الشهور رمضان، أحد أصدقاء قريبي بخيت أصر على أن نفطر معه إفطار رمضان في حي قريب من هناك ذهبنا إليه وقضينا وقتاً رائعاً معه، وهناك سمعنا خبر إعلان العيد ليوم الغد في فرنسا وبكل الدول تقريباً.
حقيقة كنت محتاج للراحة في باريس من أجل الإستعداد للذهاب إلى مدينة كاليه أو كاليس في شمال فرنسا لأن هدفي هو الدخول إلى بريطانيا وليس المكوث بفرنسا، أعددت بعض المعلومات عن قضيتي فيما بعد وتجولت داخل باريس برفقة الأصدقاء والأقرباء فمن غير المعقول أن أكون في باريس ولا أتجول بها، وإستمتع بمعالمها المشهورة.
أول أيام عيد الفطر المبارك في باريس وفي كل دول العالم تقريباً كان في يوم الجمعة الموافق 17 يوليو 2015م أي ما يوافق الأول من شوال 1436هـ، والعيد عيدين في باريس.
وجدناه فرصة جيدة للتجول والتنزه والتمتع بمعالم باريس الجميلة والمشهورة والتاريخية، ذهبنا ثلاثتنا أنا وبخيت ومجاهد للإستمتاع بالوقت، لم نترك أي معلم في باريس مثل برج إيفل وقصر الشانزليزيه ونهر السين ومقر أير فرانس وخلافهم، في باريس ستعرف عبق الزمان وقيمة المكان.
بعد ذلك جاء قريبي الأخ نواف خميس من (دبلن) عاصمة إيرلندا في إجازة صغيرة مع أسرته الكريمة، وقمنا ببعض الجولات السياحية معاً في حي الفنانين والرسامين بوسط باريس كما زرنا كنيسة مونتمارت التاريخية والتي تقع في منطقة عالية تستطيع من خلالها رؤية كل باريس الجميلة.
وعدته بزيارته في منطقة (لا ديفانس) الإقتصادية الشهيرة ولم أتمكن من الإلتقاء به لأسباب متعلقة بالإتصال والإنترنت وأضطررت للتجول بمفردي وأخذ بعض الصور التذكارية، والتفكير والتأمل بقوة هذه المنطقة الإقتصادية وجمال مبانيها فهي قلب باريس النابض.
باريس عامة مثال للمدن المتروبوليتانية أي المدن التي تتمدد كل يوم، وهي مدينة عصرية وجميلة والخدمات الإنسانية والأساسية لا تنقطع فيها وعنها ولديها شبكة مواصلات أقل ما يقال أنها ممتازة، والمواصلات عامة شبه مجانية.
كما تعتبر مدينة ثقافية وفكرية وعلمية وتقنية ورياضية، وهي عاصمة الأزياء النسائية والعطور والإكسسوارات، وعاصمة الأنوار، قد نحتاج لمليون كلمة من أجل وصفها، بل يكفينا فخامة وضخامة الإسم (باريس).
بعد أكثر من عشرة أيام أخذت فيها قسطاً كبيراً من الراحة وأستطعت تجميع بعض المال والمعلومات عن حالي فيما بعد، لذا لا بد من الإشادة ببعض الأصدقاء والأقرباء لوقفتهم المعتبرة مع شخصي الضعيف بفكرهم ومالهم ووقتهم منهم الأخ أشرف بكري من النرويج والأخ أحمد بشير أيضاً من النرويج وأخيه ياسر بشير والمرحومان ماهر إبراهيم وبدر نعيمة عليهما الرحمة والمغفرة، والأخ عبد الرحيم يوسف زمراوي والأخ فخر الدين مضوي وكلهم يقيمون في بريطانيا.
وكل الإشادة بشباب السويد الدكتوران أسامة كمال ومصطفى والدفعة أحمد ميرغني (أحمدون) وكذلك الأخ عثمان علي أحمد، وإبن عمي مندور إبراهيم والأخ سهيل علي بشير وهما من النرويج أيضاً، وعذراً لمن سقط إسمه سهواً.
كاليه (كاليس) ملتقى المهاجرين من كل العالم 
كان لزاماً علي التوجه إلى مدينة كاليه أو كاليس (Calais) في شمال فرنسا وكان ذلك في نهار يوم الأحد 26 يوليو 2015م الموافق 10 شوال 1436هـ، ولكن لكثرة المهاجرين منها وإليها وللرقابة الشديدة المفروضة على حركة المسافرين إليها عبر القطارات إشتريت تذكرة حتى مدينة (بولون) القريبة منها.
كالعادة بكل أوروبا وفي الموعد تماماً تحرك القطار نحو الشمال من المحطة الشمالية الكبيرة بباريس والقريبة من لا شابيل (غار دي نورد) وتوكلت على الله وحزمت وحسمت أمري وركبت لوحدي بدون رفيق وليحصل ما يحصل أيضاً.
لحسن حظي وجدت شاباً سودانياً يتردد كثيراً بين باريس وكاليه فهو يتابع ملفه في كاليه لسهولة الإجراءات بها، بعد التعارف بدأ يحكي لي الكثير والمثير عن معسكر كاليه والصعوبات التي بها، وكيفية السفر منها لبريطانيا العظمى، وفي الطريق وقبل محطة بولون بعدة محطات حولنا لقطار آخر بسبب غير معلوم لدينا، ربما لعطل ما، ثم وصلنا محطة بولون بالقطار الآخر، ونزلنا هناك.
ومن ثم إنتظرنا قطار كاليه التالي وبعد عدة دقائق جاء القطار وركبنا بدون تذاكر هذه المرة، ولم يكن هناك مراقبة تذكر علي القطار من قبل مفتشي التذاكر (الكونترول) وبعد فترة زمنية قليلة وصلنا المحطة الأخيرة (كاليه).
ما يميز كل دول أوروبا أنهم لا يتركون الأرض سهواً وبورا، وبدون رعاية وإهتمام، بل يحولونها إلى أراضي زراعية غاية في الجمال والتنسيق، ويكثرون من أنواع المحاصيل الزراعية والخضروات والفواكه، ويحرصون دائماً على بناء مزارع خاصة للمواشي والدواجن والأحصنة وحتى الخنازير، والكلام عن الريف الأوروبي ليس مجرد كلام وكلمات تكتب وتقال، فجنان الله في الأرض تجسدت في الريف الأوروبي المبهر.
كاليه هي مدينة متوسطة الحجم ورائعة ومدينة ساحلية وأهم ما يميزها أن نفق المانش المنشأ تحت الماء يبدأ منها نحو بريطانيا والعكس كذلك، وبها محطة القطارات الضخمة التي تنقل البضائع والمركبات والركاب من فرنسا إلى بريطانيا والعكس كذلك، هذه المحطة تختلف عن محطة القطارات الداخلية العادية.
وبها أيضاً ميناء تجاري كبير وآخر متوسط، وبها بعض المصانع مثل مصانع البيرة والمواد البلاستيكية والكيماويات ويكثر فيها المهاجرون، ويقال أنها كانت تابعة لبريطانيا سابقاً، كما غزاها الفوهرر الألماني (أدولف هتلر) في الحرب العالمية الثانية.
فور خروجنا من المحطة الداخلية للقطارات والقريبة من مركز المدينة لاحظنا وجود مبنى البلدية والمسمى سهواً (بالكنيسة) من قبل المهاجرين وهنالك حديقة مجاورة للمبنى.
وبالقرب من الحديقة، هنالك سيدة فرنسية لديها كشك صغير عبارة عن مطعم للوجبات السريعة، تناولنا الغداء أنا ورفيقي ثم توجهنا نحو معسكر كاليه وعلينا المشي نحو ساعة لبلوغه.
وطوال الطريق كنا نقابل المهاجرين كثيراً من وإلى المعسكر، وعندما وصلنا لمتجر (ليدل) الشهير بالمواد الغذائية والتموينية بالقرب من محطة الوقود هطلت أمطار غزيرة لم نحسب لها أي حساب كعادة هذه المدينة الممطرة والتي تتميز برطوبة عالية وبالبرد الشديد وبالضباب الكثيف، أخذنا حماماً مجانياً وبعد أن توقفت الأمطار واصلنا سيرنا نحو المعسكر.
أكبر معسكر للاجئين والمهاجرين في العالم 
منذ الوهلة الأولى لدخولي إلى المعسكر في طرف مدينة كاليه عرفت أنني سأعيش أيام صعبة للغاية قبل الدخول إلى بريطانيا، هذا المعسكر الذي أسس في العام 1999م وسيتم إزالته نهائياً في نهاية هذا العام 2016م، وقد إزيل فعلاً.
 ففي هذا المعسكر الضخم الخيم العادية منتشرة في كل مكان، والأوساخ والمياه الراكدة والروائح الكريهة تستقبلك منذ دخولك إليه من أسفل ذلك الجسر الشهير والمؤدي للميناء.
وأول ما تلاحظه عند الدخول هي الخيم الخاصة بالمهاجرين من دولة إثيوبيا، وبعد خيم الإثيوبيين تجد ممراً عادياً يفصل المخيمات وهنالك متاجر خاصة بالأفغان ولديهم مطاعم وجلسات للقهاوي وأندية مشاهدة وهي مجهزة بالأخشاب والمفارش وخيمهم على اليمين من خيم الإثيوبيين.
وعلى يسار خيم الإثيوبيين مباشرة تجد خيم العراقيين والأكراد والبدون من الكويت، وعلى اليسار والأمام منهم تجد خيم السودانيين وهم أكثرية ثم المصريين المقيمين بالقرب من معسكر (جول فيرن) المسور والمخصص للطعام والشراب والإستحمام وغسل الملابس وشحن الجوالات واللعب (كرة القدم - الكرة الطائرة) ويسمى بمعسكر (السلام)، وفي طرف الشارع تجد الخيمة السودانية الكبيرة فهي خيمة ضخمة تستوعب كل من ليس لديه خيمة صغيرة أو خاصة.
وفي مناطق متفرقة من المعسكر تجد خيم منتشرة هنا وهناك لعدة أجناس من السودان وإريتريا والصومال وإثيوبيا وكردستان وإيران وسوريا والعراق ومصر والشيشان وكوسوفو وألبانيا وغيرهم، العالم كله مجتمع هناك وعدد اللاجئين في كل الأحوال لا يقل عن 3000 لاجئ ومهاجر.
يسمى المعسكر (الجنقل) أي الغابة لأنه أساساً في منطقة غابات ومياه وتوجد مخيمات صغيرة أخرى في غابات ملحقة به، وتتميز بالرطوبة العالية جداً والأمطار تسقط فيها كثيراً طوال العام، وبردها شديد، وضبابها كثيف.
تجد دورات المياه الخشبية والبلاستيكية في أي ركن وغالباً لا تكون نظيفة لسوء الإستخدام، مياه الشرب من خلال حنفيات (صنابير) موزعة في ثلاث أماكن تقريباً، وهنالك منطقة صغيرة خصصت للمساعدات الطبية للمرضى وما أكثرهم.
توجد مساجد صغيرة أعددت وجهزت بالأخشاب كما توجد كنيسة صغيرة وبعض البارات والمراقص والبقالات والمقاهي وأماكن الشحن، وعادة ما تحصل مشاكل كثيرة بصورة متكررة خاصة ما بين (السودانيين والأفغان) من جهة، وما بين (المصريين والأكراد) من جهة أخرى، والأغرب من كل ذلك أن الشرطة لا تتدخل أبداً في مشاكل المهاجرين، وتتفرج عليهم ويقومون بتصوير ذلك حتى بواسطة المروحيات.
معسكر السلام الداخلي (جول فيرن) وليس معسكر الجنقل الخارجي يفتح أبوابه في الصيف عادة من الساعة التاسعة صباحاً حتى السابعة مساءاً وتختلف في الشتاء بمقدار ساعتين، ومهمته متعددة مثل توزيع التذاكر (300 تذكرة يومياً تقريباً) من أجل الإستحمام فقط، فكل شيء بالتذاكر وهي بالمجان وعليها وقت إستحمامك فعدد الحمامات المجهزة أكثر من 60 حماماً، ولكن عليك الوقوف في صفوف طويلة من أجل الإستحمام ومدته 6 دقائق فقط.
كما يقومون بتوزيع الشاي والقهوة ما بين الساعة العاشرة صباحاً والثانية بعد الظهر وأيضاً في صفوف طويلة، وشحن الجوالات أيضاً بالصفوف الطويلة والحجز المسبق، وغسيل الملابس أيضاً بالصفوف، وعليك أن تتخيل أن المعسكر به أكثر من 3 آلاف مهاجر كأكبر معسكر في أوروبا.
أما الوجبة الأساسية فهي وجبة الغداء أو العشاء فسميها كما تريد وتشاء، لأنها توزع عند الساعة الخامسة، ولا توجد وجبة الإفطار، وعليك الوقوف في صف طويل محاط بحواجز حديدية منعاً للفوضى، وتخيل أن أمامك ثلاثة آلاف شخص أو ألف أو أي عدد من أجل هذه الوجبة والذي لا بد منها وإلا فستموت من عدم الأكل، البعض يدبل للمرة الثانية أو مرات عدة فلو إستطعت ذلك ورجعت لأول الصف مرة أخرى فلن يحرمك أحد ولكن يومك كله سيضيع في الصف.
الوجبة عبارة عن خبز فرنسي وزن 250 غرام معه فاكهة أو علبة زبادي وبعض القطع من اللحم أو الفراخ وأحياناً يبدل بالسجق أو الأرز، والطعام في أوروبا عامة لا يملح أبداً ولا يتبّل غالباً ولا يتركونه حتى ينضج جيداً (نصف إستواء) مما يضطرنا لإعادة طبخه مرة أخرى عبر الطرق المعروفة في خيمنا بالمعسكر.
يجد الإنسان صعوبة بالغة في الجمع بين الإستحمام وشحن الجوال وشرب الشاي أو القهوة أو غسل الملابس والوقوف في صف الطعام، لذا عليك بتوزيع الأيام والمهام بالأيام خاصة الإستحمام وغسل الملابس، وبالمنظمة هذه يعمل أكثر من خمسون شخصاً كموظفين أساسيين أو متطوعين، ويوزع المهام بينهم يومياً وهم من جنسيات مختلفة.
ولكن لماذا كنت مجبراً على كل ذلك؟ ما الذي يجعلني ويجعل غيري أن يستحمل كل ذلك؟ بالتأكيد لأن الهدف أسمى وأكبر، ولأن أهم مدينة يمكنك أن تعبر من خلالها إلى بريطانيا العظمى هي كاليه وذلك إما عن طريق الميناء أو القطارات التي تحمل الشاحنات، لذا علي وعليهم تحمل كل المشاق والصعاب.
التقارير الواردة من المعسكر في الوقت الراهن تقول أن السلطات الفرنسية أزالت أجزاء واسعة من المعسكر العشوائي القديم وأقامت مكانها معسكراً نموذجياً ولكن لا أحد يرغب به لأن الدخول إليه عبر البصمة، وهذا يعني أن الراغبين بفرنسا يمكنهم المكوث فيه قبل توزيعهم لمدن أخرى، أما من يريد الدخول إلى بريطانيا أو دولة أخرى خلاف فرنسا فسيكتفي بالمعسكر العشوائي الخارجي إلى أن يقض الله أمراً كان مفعولا.
هنالك بعض المصطلحات والكلمات المتداولة في كاليه وفي معظم المدن الأوروبية بالنسبة للمهاجرين ومعظمها ألفاظ وكلمات سودانية يتحدث بها الكل، سنشرحها في السطور التالية.
(صاروخ) يدل على الشخص الجديد والذي يأتي لأول مرة خاصة في كاليه ومدن المهاجرين المختلفة بإعتباره ما يزال نشيطاً وقوياً مثل الصاروخ وهذا اللقب لا يفارقك ما لم تكمل شهران أو أكثر.
(ماكينة - مكنة) تأخذ لقب ماكينة أو ماكنة أو مكنة بعد قضاء شهران أو أكثر من تواجدك، وهنالك ألقاب مشتقة منها مثل (ماكينة قديمة) وهو يطلق لشخص لديه شهور كثيرة وربما أكثر من عام.
(عباس) لفظ يطلق لرجال الشرطة العاديين وهم يستخدمون الهراوات والغازات المسيلة للدموع لتفريغ المهاجرين.
(جندي نميري Gendarmerie) لفظ يطلق للقوات الخاصة أو قوات الدرك من رجال الشرطة وغيرها أي جندرمير Gendarmerie، وسمعتهم سيئة جداً ولا يرحمون أو يتهاونون مع أحد، وأيضاً يستخدمون الهراوات والغازات المسيلة للدموع لتفريغ المهاجرين.
(الكلاكلة) ويطلق على كاليه نفسها خاصة فيما بين السودانيين وهو على إسم الحي المعروف والكبير بجنوب الخرطوم.
(سكيورتي) رجل أمن خاص تجده بالمحطة الكبرى والميناء.
(الإنقليز) هو لفظ خاص يستخدمه المهاجرين المتوطنين بفرنسا وبنفس اللفظ وذلك عند سؤالهم أو حديثهم لمن يريد الدخول إلى بريطانيا، على سبيل المثال وبالعامية تُسأل هكذا (إنت خاشي الإنقليز؟ إنت داير الإنجليز؟).
(التفجيرة) مثل فلان فجرها، جملة تسمعها كثيراً يومياً وذلك عندما يتمكن شخص ما وينجح في الدخول إلى بريطانيا عن طريق الميناء أو القطارات أو أية وسيلة أخرى، أي فلان عبر ودخل بريطانيا.
(الدُقار) أكثر المصطلحات إستخداماً، وتقال عندما تكون هنالك أزمة مرور وتكدس للشاحنات قبل تفتيشها بواسطة الماسحة الضوئية الضخمة (إسكنر) أو بجهاز التنفس أو عبر الكلاب البوليسية سواء في الميناء أو في محطة القطارات.
وقد تجد أكثر من 3.500 شاحنة وذلك في الطريق العام ينتظرون دورهم ببطء شديد للدخول إلى الميناء أو قطارات الشحن، وهذا الدقار قد يستمر يوماً أو يومان أو أكثر.
(الشانس) أي الفرصة بالإنجليزية، وهي عملية تطلق على كل محاولة دخول للميناء أو محطة الترينات الكبيرة، وقد تكون محظوظاً ويدعك الشرطة ويعطيك فرصة (شانس) للعبور إلى بريطانيا.
(الكبْة) هي كلمة مشهورة جداً ومرتبطة عندما تأتي بعض الجمعيات والمنظمات الدولية وبعض الخيرين لتوزيع أشياء ومستلزمات مختلفة للمهاجرين مثل الأطعمة والمشروبات والملابس والأحذية والخيم والأخشاب وأدوات الطبخ وحتى الدراجات وخلافها، وهم ينشطون أيام الجمعة والسبت والأحد.
(الحنة) الشخص الذي أخذت منه بصمات الأصابع بإستخدام القوة أو من تلقاء نفسه في فرنسا أو أية دولة أخرى، أي كأنه قام بتخضيب أصابعه بالحناء.
(العَشَرَة) للشخص الذي قدم ملفه بفرنسا وأخذ الإقامة الدائمة ومدتها عشرة أعوام.
(الأوبرا) كلمة بالفرنسية ويقصد بها يوم المقابلة الرئيسية للقضية أي الإنترفيو.
(الحُفرة) أن يقوم المهاجر بفتح عدة ملفات (لديه عدة حفر) وذلك بعدة مدن ودول أوروبية خاصة ألمانيا وفرنسا للإستفادة مادياً ولكن عليه حرق بصماته العشرة كل مرة وهي عملية مقززة صراحة ومضيعة للزمن.
(الخرابة) هي منطقة كانت موجودة قبل العام 2015م في شرق محطة القطارات الداخلية بكاليه وكانت منطقة لا بأس بها وأفضل من المعسكر الحالي، تركها المهاجرون بعد فتح معسكر الجنقل.
قبل معسكر الجنقل هنالك أيضاً غابة قريبة منها وبجوار مصنعي الدخان والبيرة بشارع المعسكر نفسه، كانت معقلاً للمهاجرين ولكن تم إجلائهم وترحيلهم جميعاً وقطعت كل الأشجار التي فيها بعد مشاكل عدة وسمعنا أن أحد الإرتريين قد قتل فيها طعناً.
بعيداً عن قاموس المصطلحات الخاصة هنالك أماكن يعرفها المهاجرين بكاليه مثل منظمة (الكاثوليك) للمساعدات القانونية لأصحاب البصمة والذين فتحوا ملفاتهم بكاليه. وكذلك مكتب (الأوفي) لمساعدات اللاجئين الذين شرعوا في فتح ملفاتهم بكاليه.
وكذلك (بيت المحامية) وهي سيدة فرنسية لديها شقة أرضية صغيرة بوسط المدينة تديرها كمتطوعة بها حمامات ووجبات خفيفة وشاي وقهوة وإمكانية شحن الجوال بدون مقابل ولكن لساعات قليلة، وهنالك كنيسة خاصة لتوزيع الملابس والأحذية في أيام وأوقات محددة عبر تذاكر توزع بمعسكر السلام.
وهنالك موقف الإستاد لركوب الشاحنات خلسة، وحنفية تسمى مجازاً (الشقشاقة) وهي حنفية عادية لمياه الشرب الصالحة بالقرب من إحدى الترع الموصولة بالبحر يشرب منها المهاجرين وبعد سوء الإستخدام كالعادة من بعضهم أغلقت، ...إلخ.
كيفية الدخول إلى بريطانيا من كاليه
أكرر دائماً مراراً وتكراراً أن مسألة الدخول إلى بريطانيا ليست سهلة خاصة منذ العام 2015م، فهنالك عدة طرق تساعدك للدخول، مثل الدفع للمهربين في كاليه نفسها أو في المدن القريبة منها مثل (هازبوروك وهازبيرغ وسانت عمر وبولون ودانكيرك) ومهمتهم فتح أبواب الشاحنات وإدخالك فيها، ثم يتركونك لقسمتك وحظك ونصيبك قد تدخل من أول مرة أو من ثانية مرة أو من المرة المائة ولا يجب عليك أن تدفع في كل مرة إذا ما فشلت بل تحاول معهم حتى تدخل.
والشاحنة قد تدخل عن طريق موانئ دانكيرك أو بولون أو كاليس أو ميناء صغير يسمى (كا) أو قد تدخل عن طريق الشاحنات عبر القطارات التي تحملها بنفق المانش (طوله 50 كيلومتر أي 31 ميل).
وهنالك طريقة إستغلال حالة الدقار والدخول إلى الشاحنات بمساعدة أحد أصدقائك بعد أن تتفق معه بأن يغلق عليك باب الشاحنة وبعد ذلك قد تدخل أو لا، ويمكنك فعل ذلك في الطريق العام أو بمواقف الشاحنات داخل المدن أو بالقرب من الميناء أو محطة القطارات الكبرى.
أو عن طريق (ضربة) البصات السفرية، فهنالك مهربين يعرفون البصات والمركبات التي تدخل إلى بريطانيا من فرنسا وفي أسفل المركبات والبصات مع هيكل الشاسيه هنالك فجوة كبيرة على شكل مربع حديدي تسمى (الضربة) قد تصادف أن تأتي من خلالها لبريطانيا.
أو عن طريق (الدِنقِل) وهو مشابه لضربة البصات ولكن الدنقل نجده فقط في الشاحنات وبعض القطارات.
أو عن طريق مهرب خاص لديه عربة خاصة يستطيع إدخالك عبرها بريطانيا وهي لا تنجح غالباً، وسعر التهريب تتراوح في هذه الحالة بين 1.000 - 10.000 يورو.
والطريقة الأخيرة والتي كانت منتشرة فقط في العام 2015م وتوقفت تماماً الآن هي المحاولة بنفسك للصعود فوق قطارات الشحن وذلك بعد تخطي مصاعب جمة لا حصر لها قد تفقدك حياتك.
الطريقة الأخيرة هي التي جعلتني أنتظر بكاليه قرابة الشهران ونصف، لأنها كانت مجانية فهي تعتمد على مجهوداتك الفردية ولأن الكثير من أصدقائي تمكنوا من الدخول عبرها.
بعد الوصول إلى المعسكر وفي نفس اليوم وبعد أن فعل المطر فعلته قررت أن أبدأ المحاولات من اليوم التالي، وبما أنني لا أملك خيمة خاصة بي توجهت نحو الخيمة السودانية وشكرت رفيقي ذلك كثيراً.
وفي الخيمة السودانية ألتقيت بأصدقائي مرة أخرى وهم علي آدم وحسين عبد الله والشبلي عبد الله وآدم أبو طويلة وآخرون، وشكلنا مجموعة فيما بيننا، الكل يحكي للآخر كل ما مر به حتى الوصول إلى كاليس، فالهدف كان مشتركاً وواضحاً.
في صباح اليوم التالي توجهنا نحو مكتب (الأوداس) حيث سحب ورقة (الأدرس) أو العنوان لنكون في مأمن من رجال الشرطة من خلالها أي كأننا سنقوم بفتح ملفاتنا هنا في كاليه على حسب الأدرس الذي معنا والذي به البيانات خاصتنا، ولكن كان ذلك فقط للتنويه، من أجل كسب الوقت والأمان لا غير.
ووجدنا هناك شباب آخرون كانوا قد فتحوا ملفاتهم في كاليه فعلياً وليس شكلياً بعد أن فشلوا في الوصول إلى بريطانيا وملوا منها.
قد ينتظر أحدهم عدة شهور بعد فتح ملفه بكاليه، ثم يحول بعد ذلك إلى مدينة أخرى ويتم تسكينه في سكنات (الفوياء) أو (الكادا) إلى أن يسكن في بيته الخاص، ولكن لن يتم تحويله إلى البيت الخاص إلا بعد أخذه الإقامة بفرنسا.
كان علينا السير لمدة تزيد عن الساعة من أجل الوصول إلى محطة قطارات كاليه الكبرى والقريبة من نفق المانش، فالمسافة من معسكر كاليه إلى هذه المحطة ويسمى بالترين عند المهاجرين يستغرق أكثر من ساعتين ومكتب الأوداس يقع في منتصف الطريق.
ولكن المسافة كما ذكرت من المعسكر حتى محطة الترينات العابرة للنفق وليس لمحطة القطار الداخلية ساعتان وأكثر مما يعني أننا سنهدر قرابة الخمس ساعات يومياً فقط في الذهاب والإياب ما بين معسكر كاليه ومحطة الترين، وهو شيء غير منطقي في تلك الظروف القاسية.
أول يوم في المحاولة تهنا كثيراً وضللنا رغم تواصلنا مع مجموعة أخرى وفقدنا الطريق وبعد عدة ساعات أستطعنا اللحاق بهم لنلقي نظرة على ما يدور هناك ولنفهم ما سيحصل بعد أن إلتقينا بهم بالقرب من مطعم كنتاكي الشهير.
عشرات بل مئات المهاجرين يريدون السفر خلسة، ومع حلول الظلام، بدأنا في المحاولة الأولى، الشرطة في أي مكان، وكاميرات المراقبة منتشرة حتى في الغابات المحيطة بمحطة الترين الضخمة، وعليك أن تقوم بإجتياز عدة أسلاك شائكة وخطرة، والمرور خلسة من الكلاب البوليسية.
وأحياناً تخوض مياه الصرف الصحي المعدل، وحتى لو تمكنت من الوصول إلى أرصفة القطارات والتي تفوق العشرة أرصفة، عليك أن تخبئ نفسك جيداً وتختار القطار الذاهب إلى بريطانيا وليس العكس، ومع كل ذلك هنالك المئات معك، وهذا يعني أن أمركم مكشوف أو سيكشف غالباً، وقد تأخذ أكثر من 3 ساعات لكي تجتاز سلكاً شائكاً واحداً فقط، وقد تعود بجروح خطيرة وتمزق كل ملابسك.
في الحقيقة نجح الكثيرون في ذلك، وأنا ومعي كثيرون كان يتم إرجاعنا في كل مرة، والقبض علينا، وإخراجنا عبر الكلاب البوليسية من داخل القطارات المحملة بالشاحنات، ثم يأخذوننا إلى مناطق بعيدة عبر عربات الشرطة فلو قلت لهم أنك إريتري يتركونك ولو ذكرت أية جنسية أخرى يتم إستجوابك وحتى سجنك خاصة لو قلت أنك سوداني.
أذكر جيداً أن المهاجر عبد الرحمن هارون في شهر أغسطس 2015م كان قد شغل كثيراً الصحافة والإعلام في العالم أجمع وذلك عندما عبر نفق المانش عدواً وركضاً وهو أمر خيالي وغير منطقي لأن طول النفق 51 كيلومتراً وبني داخل بحر المانش تحت القاع والذي يفصل ما بين فرنسا وبريطانيا حيث يربط مدينة كاليه الفرنسية بمدينة (فولكستون) البريطانية والقريبة من ميناء دوفر الساحلي، وميناء دوفر البريطاني مربوط مع ميناء كاليه الفرنسي وليس عبر النفق كما يدعي البعض.
وبسبب دخوله النفق أوقفت حركة القطارات من وإلى فرنسا لمدة يوم كامل وهو أول شخص يعبر هذا النفق المظلم والضخم والمليء بالضغط الكهربائي العالي حيث كاد أن يفقد حياته، وهو أول إنسان في العالم يعبر نفق المانش وكان عبوراً مذهلاً كما وصفته وسائل الإعلام المختلفة في العالم.
في محطة الترينات الضخمة يتهور البعض ويحاولون الصعود على القطارات التي تهدئ من سرعتها بالقرب من المحطة أو بعد قيام القطارات بأكثر من عشرون ثانية والقطار لقوته يجذبهم مثل المغناطيس، وللأسف الشديد فقد بعض المهاجرين حياتهم بينما أصيب البعض بكسور وجروح، وكل يوم كانت تزداد عدد الأسلاك الشائكة والطويلة، لمنعنا من المحاولات.
في محطة الترين الضخمة هنالك شوارع وجسور كثيرة وأماكن ملتفة حولها أيضاً وموجودة كذلك داخل المحطة أطلق عليها أسماء مختلفة من قبل السودانيون ولم تأتي الأسماء من فراغ وسنشرحها أيضاً في السطور التالية.
(شارع الحصين) ربما يكون أشهر الشوارع فهذا الشارع الغربي للمحطة طويل جداً والأسلاك الشائكة فيه طويلة وكثيفة وما بين الأسلاك الشائكة الفاصلة لمحطة الترينات هنالك المزارع والبيوت القريبة منه، وتجد الحصين في مزارع مكشوفة رأي العين فسمي الشارع به، وأولى محاولاتي كانت من خلال هذا الشارع وإستطعت الوصول إلى محطة القطارات ولكن بدون فائدة.
(شارع المراوح) هذا الشارع يقع بالشرق من المحطة مباشرة وبه ثلاث مراوح - طواحين هوائية - كبيرة لذا سمي بهذا الإسم، وأيضاً محاط بعدة أسلاك شائكة وغابات جزت فيما بسبب المهاجرين.
(شارع البحيرات) هو شارع يقع غرب شارع المراوح به بحيرتان صغيرتان تكثر بهما طيور البط والأوز والبجع.
(شارع البيوت الفرنسية - شارع الموية) هو شارع يقع بين شارع البحيرات وشارع الحصين.
(شارع القمح) يكثر به مزارع القمح في أطراف الشوارع التي ذكرتها في أقصى الشمال والغرب من المحطة.
(شارع بلجيك) لا معنى واضح لشارع بلجيك سوى أن العربات القادمة من بريطانيا تمر به ولا تذهب معظمها إلى بلجيكا بالطبع.
(كبري عباس) هذا الجسر يرابط فيه الشرطة كثيراً وهو يقع بين شارع البحيرات وشارع البيوت الفرنسية، والمرور من خلاله خلسة يعني الوصول إلى الترينات.
(كبري عيش الريف) وهو جسر يقع في شارع الحصين ومربوط بإحدى مزارع الذرة الشامية.
(كبري النفق) وهو الجسر الأخير قبل الدخول لنفق المانش، وتنتشر به الشرطة دائماً وأحياناً الجيش الفرنسي.
(منطقة عربات الصيانة) وهي منطقة كبيرة بين شارع الحصين ومحطة الترين الأساسية وفيها تتم صيانة القطارات.
(منطقة القطارات الخارجية) وهي قطارات لا تتحرك مباشرة إلى بريطانيا وتكون محملة بالبضائع عكس قطارات الشاحنات ومنطقتها بين شارع الحصين ومنطقة الصيانة.
(قسم البوليس) هنالك قسم شرطة وسجن صغير بالقرب من المحطة.
(التفتيشان الفرنسي والإنجليزي) وهي نقاط تفتيش موجودة بالقرب من المحطة لتفتيش الشاحنات التي ستدخل القطارات فيما بعد.
بعد أن كثرت حوادث القتل والإصابات بالمحطة وبعد تكدس المهاجرين حصلت بعض المظاهرات لفتح الحدود بكاليه، وإنتشرت وسائل الإعلام المختلفة، وبعد ذلك أصبح دخول المهاجرين لبريطانيا بأعداد هائلة تقلق البريطانيين ولا يأبه بها الفرنسيين، ففي مرات كثيرة الشرطة الفرنسية تتساهل في المراقبة فهي لن تخسر شيئاً حتى لو دخل كل المهاجرين بريطانيا، لذلك دخل الكثيرون، ولكن لم يحن موعدنا بعد ولم نيأس من ذلك.
وقررت مع أصدقائي النوم في العراء إن لزم الأمر أو داخل الغابات القريبة من المحطة وهذا ما حصل، فقد كنا ننام بالقرب من متجر (ليدر برايز) المشهور للمواد الغذائية في البلاط الخارجي له مع أغطية عادية أو داخل السليبنق باق نأكل بعض المعلبات والرغيف الفرنسي فقط من جيوبنا، أو نشعل النار لطبخ بعض المعكرونة والأرز أو لإعادة طبخ المعلبات.
 والأخبار الواردة من هناك مؤخراً أكدت أن هذا المتجر الكبير أغلق من قبل السلطات بسبب تكدس وتواجد المهاجرين حوله!.
بل هنالك تقارير وقرارات قوية لن تكون في صالح المهاجرين الراغبين في الدخول إلى بريطانيا، ففرنسا وبريطانيا إقتربتا كثيراً من إغلاق معسكر كاليه وكل المعسكرات المتشابهة بشمال فرنسا في نهاية هذا العام، وحتى العام القادم، وسيوزع المهاجرين على وحدات ومجمعات سكنية ممولة بنسبة كبيرة من بريطانيا.
ولكن الهجرة والدخول إلى المملكة المتحدة لن تقيف أو تنتهي أبداً، ولكنها ستصبح أقرب للمستحيل، ويبقى كل ذلك على الورق وربما تطبق حرفياً، والأوضاع حالياً أكثر صعوبة من ذي قبل.
كانت بالقرب منا بحيرة صغيرة أعدت للطيور المائية والإستجمام إلا أننا وجدناها فرصة لغسل الملابس وللوضوء، بينما قضاء الحاجة كان بين الأشجار الكثيفة والحشائش الطويلة، وكنا نذهب مرة واحدة في الأسبوع لمعسكر السلام من أجل الإستحمام وغسل الملابس وشحن الجوالات، وأحياناً نستغل باصات المدينة حتى المحطة القريبة من المعسكر بواحد يورو.
أصبحنا مجموعة واحدة مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء منهم صديقي عطا وكذلك كل من الإخوة مجاهد صالح وأبو شيبة وإسماعيل يعقوب والنذير سنار وعبد المجيد محمد وعبد القادر ميرغني (قدورة) وإسرائيلي وعصام تقابو وحامد (ود الحاج يوسف) وحسن بوب وبريمير ليغ وصالح الطويل ومحمد ود يحيى وهؤلاء الآن ببريطانيا.
 وإبراهيم دكين والحمري ومحمد أحمد وحسن الدنقلاوي وحسين أدروب ومكي السيد وحسن سنار والتونسي زياد منسي وعز الدين أبو شنب وود حامد وهؤلاء بفرنسا.
 ومحمد آلية وغازي وشقيقه بحر ومنصور آدم وماجد أشواك وآدم ود الجزيرة وشمس الدين ومدثر آدم وهؤلاء أيضاً ببريطانيا حالياً وعمر ود المناقل وغيرهم.
أصبت في أنخل قدمي (الأنكل) في الأسابيع الأولى لي بكاليه بعد إحدى محاولاتي المتكررة في الأسلاك الشائكة فقد قفزت بكل قوة وتحملت على أقدامي ومكثت في الخيمة السودانية الكبيرة بالمعسكر قرابة الأسبوع، ثم عاودت الكرة من جديد بعد العودة للغابة.
دخل معظم أصدقائي الواحد تلو الآخر بريطانيا ومنهم من فضل البقاء في فرنسا ونسي فكرة بريطانيا، بالرغم من محاولاتنا المستميتة والكثيفة، ومساعدة بعضنا البعض لم يحن بعد موعد الدخول لبريطانيا.
يومياً كنا نقطع الكيلومترات وننام على الكباري ونتعرض للضرب والطرد من قبل الشرطة مع قلة النوم والأكل والشرب والمال وعدم الإستحمام إلا قليلاً، خلاف الضباب الكثيف لدرجة عدم الرؤية ومع الرطوبة العالية والأمطار الغزيرة والبرد القارس ولمدة شهران ونصف ولكن كل ذلك يهون ما دمنا سندخل بريطانيا.
فيما أذكره جيداً أنني في مرة من المرات ركبت (دنقل) شاحنة وهو مكان موجود فوق اللساتك الخلفية مباشرة مع الشاسيه وبالخطأ من داخل القطارات وكان معي شاب إسمه بشير من السودان.
خرجت الشاحنة من إحدى القطارات القادمة من بريطانيا وليس الذاهبة إليها لسوء حظنا ولم تتوقف إلا بعد خمسون كيلومتراً عند بوابة مدينة (آراس)، وتوسخت ملابسنا وأجسامنا بسبب الشحوم والزيوت والأوساخ.
وعدنا بعد ذلك نحو كاليه حيث تنتظرنا 50 كيلومتراً، مشينا خمسة كيلومترات في البدء، ثم جاءت القوات الخاصة (جندي نميري) وأعتقدنا أننا في خطر وربما نتعرض للإستجواب ولكنهم أوصلونا لمسافة خمسة كيلومترات أخرى لأننا كنا في الطريق السريع حينها، ثم مشينا خمسة كيلومترات ولكن هذه المرة الأمطار لم تتركنا لحالنا والبرد والرطوبة كانا ضيفين ثقيلين علينا، وكنا نشير للعربات بالتوقف ولكن لا حياة لمن تنادي.
ولكن ما أذكره جيداً ولن أنساه في حياتي أن أحد الفرنسيين يدعى (وليم) وكان قد سافر لشمال أفريقيا من قبل كما قال لنا لاحقاً، قد أقلنا من هناك لمسافة 35 كيلومتراً بعربته حتى المعسكر في كاليه وكان متجهاً حينها عكس كاليه أي عاد من أجلنا، بل وأعطى كل منا عشرة يوروهات وبعض الأرغفة الساخنة فحالتنا كانت ميؤوسة منها، ولكن الرب كريم، والإنسانية ما زالت بخير.
بعد أكثر من شهران ونصف بكاليه قررت الذهاب إلى مدينة (هازبوروك) وتحديداً إلى بلدة (ستينفورد) في شمال فرنسا، لأن الشرطة أصبحت متشددة جداً بكاليه ويتم حبس من يجدونه بالقرب من المحطة أو الميناء لذا لا داعي للمكوث وتضييع الزمن أكثر من هذا ولكن قررت الذهاب بعد عيد الأضحى مباشرة.
لمدة أسبوعين خففت المحاولات للمحطة، وقررت العودة إلى معسكر السلام (الجنقل) بدلاً من الغابات التي كنا بها بالقرب من محطة الترينات وتركت أيضاً البلاط القريب من ليدر برايس وكذلك محطة البنزين المجاورة لها، وشرعت في تجميع المال من جديد لأن التهريب على الأقل يحتاج إلى 500 يورو خلاف المصاريف الأخرى.
أيضاً كان أقربائي وأصدقائي أشرف صالح (أشرف مية) وياسر محمد بشير (شبرويش) وأهلي بالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية في الموعد تماماً، وإستطعت تجميع أكثر من 500 يورو.
كان معي في الفترة الأخيرة لي بمعسكر السلام الأصدقاء والرفقاء الأخ أمين عبد الوهاب والأخ محمد الفاتح عبد الباري والأخ يوسف حبيب والأخ إبراهيم كيلاني (من أصدقائي بالقاهرة)، وقررنا أنا وأمين ويوسف وإبراهيم الذهاب إلى هازبوروك بعد عملية التنسيق مع المهربين، تأخر الأخ كيلاني لعدة أسابيع لظروف خاصة وفيما بعد ذهب لمدينة هازبوروك وهو الآن ببريطانيا.
أولى أيام عيد الأضحى المبارك بكاليس كان يوم الخميس 24 سبتمبر 2015م الموافق 10 ذي الحجة 1436هـ حيث أتت جمعيات خيرية ومنظمات دولية من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا لتوزيع اللحوم وتوابعها للخيم بعد أن أدينا صلاة العيد داخل مركز السلام الداخلي.
وفي ذلك اليوم كل من ذهب للمحطة الكبيرة كان محظوظاً حيث تمكن من الدخول إلى بريطانيا كعيدية جميلة من الشرطة الفرنسية إلا أننا لم نكن من أصحاب القسمة للدخول.
هازبوروك - ستينفورد مدن السعد 
الإنتقال لمدينة هازبوروك وتحديداً لبلدة ستينفورد في شمال فرنسا من كاليه كان في صباح يوم الأحد 4 أكتوبر العام 2015م، وذهبنا أربعتنا أنا وأصدقائي أمين ويوسف وصديقنا فيما بعد شهاب (أندر أيج) فهو يعرف أمين عن طريق أحد أصدقاء إبن عمة أمين وكان بستينفورد منذ شهور ويعرف المهربين ولو ذهبنا عن طريقه فسيتم قبولنا مع المهاجرين هناك (واسطة)، كما أنه يعرف الطريق جيداً ولحسن حظنا أنه كان بالجنقل في كاليه ذلك اليوم.
تحركنا من كاليه ظهراً وبعد عدة محطات نزلنا في محطة هازبوروك ولكن علينا السير لمدة ساعتان حتى نصل بلدة ستينفورد لأن الحافلات التي تذهب إلى هنالك من محطة هازبوروك قد فات وقتها.
لحسن حظنا مرة أخرى كان هنالك مهرجاناً ضخماً وكرنفالاً كبيراً بالبلدة وبعد نصف ساعة سير وقفت سيدة فرنسية بعربتها الخاصة تطلب منا أن نركب معها فهي تعرف الكنيسة الخاصة بالمهاجرين كما أنها ذاهبة للكرنفال في نفس البلدة، وما هي إلا عدة دقائق حتى وصلنا الكنيسة وشكرناها كثيراً فقد وفرت علينا الكثير.
قابلنا المهربين في المبنى التابع للكنيسة (تشيرش) ودفع كل واحد منا مبلغ 500 يورو تكون كلها بحوزة المهربين حتى تدخل بريطانيا ولا تدفع مرة أخرى إذا ما فشلت محاولاتهم معك، وعليهم توفير السكن والأكل والشرب، وتهريبك عن طريق الشاحنات، ولو أردت إرجاع مالك فلن يعطونك إلا مئتا يورو وسمعت مؤخراً أن هذا الشرط أيضاً قد تلافى.
أذكر أن من إستلم المبلغ مهرب إريتري يدعى (هنوك)، فكل المهربين هناك من إريتريا سواء في هازبوروك أو المدينة الأخرى مثل هازبيرغ، وأول من أسسوا هذا المكان هم سودانيون، ولكن بعد مشاكل كثيرة أصبح خاصاً بالأريتريين، ولا يقبلون إلا السوداني أو الإثيوبي أو الإريتري وكذلك التشادي ومن الجنسين.
المهرب هنوك دخل الآن الولايات المتحدة الأمريكية من المكسيك بواسطة التهريب بعد أن سافر إلى المكسيك بوثيقة سفر فرنسية.
المبنى الخاص بالمهربين والذي به مكان الأكل والشرب ودورة المياه وشحن الجوالات واللعب والتلفاز وغيرها يقع مقابل الكنيسة الأصلية ويتبع لها لذا يسمى تشيرش أي كنيسة بالإنجليزية.
المسؤولة من كل المهاجرين هناك سيدة فرنسية مسنة تدعى (الآنسة مامي) وتساعدها بعض السيدات أذكر منها (الآنسة مونيكا) وهي المسؤولة من بوتيك المبنى والذي به غرفة أرضية بالأسفل حيث مكان البوتيك تفتح أبوابها يوم الأربعاء تقريباً.
أيضاً هناك المتطوع (أندريه) والذي يقوم بتوصيل المهاجرين من التشيرش إلى الجنقل الصغير أو الغابة الصغيرة، وأحياناً يقوم بالتوصيل من محطة هازبوروك إلى ستينفورد والعكس، والمخيم هذا يقع بعد الشارع الرئيسي وهو مكان النوم، وهو مكان ذو رطوبة عالية والبرد قارس وصعب والحياة فيها تكاد تكون معدومة.
الإستحمام كل يوم إثنين وخميس وبالأسماء فمن يأخذ حماماً يوم الإثنين عليه الإنتظار أسبوعاً كاملاً ونفس الشيء لمجموعة الخميس، فقد كان عددنا قرابة المائة وكل يوم إثنين أو خميس مسموح لخمسون شخصاً تقريباً من الجنسين بالإستحمام.
والحمامات النظيفة هذه موجودة بمباني أخرى في نادي رياضي، والآنسة مامي تنسق معهم، الآن أصبح الوضع أصعب بكثير كما سمعت لأن عدد المهاجرين قد وصل الثلاثمائة أو أقل بقليل، وإختلط الحابل بالنابل.
بل سمعنا مؤخراً أن السلطات الفرنسية أزالت هذه التجمعات والمعسكرات في المنطقة وفي كل مناطق فرنسا، فالقوانين والظروف في أوروبا تتغير سنوياً، والحياة فرص.
الشيرش تفتح أبوابها عند الساعة الثامنة صباحاً ويقفل عند السادسة مساءاً وبه إفطار مكون من الفطائر والعصائر والحلويات والحليب والمعلبات، ووجبة الغداء تطبخ يومياً وكل يوم هنالك مجموعة تقوم بعملية الطبخ وتوزيع الغداء عند الساعة الرابعة عصراً، أما وجبة العشاء فتأتي بها الآنسة مامي إلى المخيمات وتوزع بعض الأرغفة والزبادي والفواكه والحلوى والبسكويت.
مكان النوم في خيم تقع على بعد كيلومترين تقريباً وداخل إحدى المزارع تحت شجيرات بسيطة، ودائمة الرطوبة، والخيم أنواع حيث نجد خيمة كبيرة بها أكبر عدد من المهاجرين مثل خيمة تسمى هنالك بخيمة (التايتانيك) وخيم أخرى تسع لثلاث أو أربع أشخاص والشباب خيمهم مفصولة عن خيم الشابات.
وسبب وجوده هناك لقربه من الموقف الخاص بالشاحنات المتجهة إلى بريطانيا، وبالقرب من الموقف هنالك محطة الوقود وسوبر ماركت ملحق بها ويسمى (اللفة) وما أدراك ما اللفة.
هنالك 3 شانسات (أي محاولات أو فرص) يومياً وهي:-
أولاً: (شانس العصر) بالعصر، حيث يقود المهرب مجموعة من المهاجرين ويخبئون أنفسهم جيداً في المجرى المائي أو بين الأشجار وعندما يقف السائق في منطقة اللفة ويترك سيارته لمدة دقائق يقوم المهرب بفتح الباب الخلفي للشاحنة وإدخال المهاجرين، وغالباً السائق لا يعرف من بداخل السيارة فهو لا يتوقع أن هنالك مهاجرين بها لأنه وقف لدقائق وقد لا يعرف أن بهذه المنطقة مهاجرين.
ثانياً: (شانس الموقف) أو الباركنق وعادة يكون عند الساعة الثانية عشر منتصف الليل لأن سائقي الشاحنات ينامون في مثل هذه الباركنات ليتحركوا عند الصباح الباكر نحو ميناء دانكيرك أو كاليه، ويقوم أحد المهربين بإخراج كل من في المخيم ويفتح أبواب الشاحنات بعد قراءة وجهة الشاحنة لأن هنالك شاحنات لا تذهب إلى بريطانيا بل إلى دول أوروبية أخرى أو تذهب لداخل فرنسا، ولو وجد عربة تحمل بضاعة خفيفة يتم إدخال أكبر قدر من المهاجرين.
ولو عرف السائق بأمرهم يقوم بإنزالهم عند الصباح أو يتصل بالشرطة أو يدعهم بالعربة حتى الموانئ وهناك يقوم المسؤولين بإنزالهم بعد أن يخبرهم السائق بوجود مهاجرين، وهذا يحدث كثيراً.
ثالثاً: (شانس اللفة الصباحية) وهو في الساعة الخامسة صباحاً وشبيه بشانس العصر ولكن نسبة النجاح فيه أعلى فمعظم الشاحنات التي تأتي في هذا التوقيت وجهتها تكون بريطانيا.
هنالك بعض (الشانسات المنفردة) لبعض الشباب قد تنجح أحياناً أي أن يتفق بعض المهاجرين مع بعضهم البعض بأن يقوم يومياً واحد منهم بفتح أبواب الشاحنات وقفل الآخرين إذا ما وجدوا فرصة وبعضهم قد دخل بريطانيا بهذه الكيفية.
لا توجد شانسات يوم السبت لأن يوم الأحد عطلة رسمية بأوروبا، وهنالك شانس الساعة الثانية عشر فقط يوم الجمعة تقريباً بسبب إجازة نهاية الأسبوع، الوضع بصورة عامة لم يكن أسوأ من وضع كاليه فهنا وجدنا القليل من النظام والرعاية، والكثير من الأمل والتفاؤل.
المهربون يخشون رجال الشرطة كثيراً وبعضهم قابع في السجون وكلهم مبصمون بفرنسا لذا يعمل كل 3 أو 4 مهربين لمدة 3 أشهر ثم يأتي مجموعة أخرى، وبعد ثلاثة أشهر تعود المجموعة الأولى وتذهب المجموعة الثانية، ويكسبون أموالاً خرافية من المهاجرين، وأذكر أن كبيرهم يدعى (سعدة) من أصول إريترية ويحمل الجنسية الفرنسية ويعمل تحت إمرته كل من أنقسي وهنوك ومرارو وبنيامين ودانيال وصدام وغيرهم.
المهم ولمدة 23 يوماً ركبت عدة مرات الشاحنات وفي بعض الأحيان نكون داخلها لمدة 14 أو 15 ساعة وعند التفتيش في ميناء دانكيرك يتم إنزالنا ونعود إلى المخيم عبر القطارات، وأحياناً يتم إنزالنا في ميناء كاليه.
في مرات كثيرة يقوم السائق بإنزالنا في الصباح قبل التحرك من الموقف، وبين يوم وآخر كان بعض المهاجرين ومنهم أصدقاء لي ينجحون في الدخول إلى بريطانيا وهو ما كان يشجعنا أكثر.
من أصدقائي ورفاقي الذين نجحوا في الدخول إلى بريطانيا قبلي أو بعدي وعلى سبيل المثال وليس الحصر محمود الدقي وياسر فري ورضوان أولاد سالم ورضوان إسماعيل ومحمود الإريتري ونور الدين الأطرش ووليد الديم وياسر دانكيرك وصابون عبد الله وود المأمون ومعتز ومحمد الجيكو ومحمد حلمي وشهاب أندر إيج وعثمان هود وداؤود (ديفيد) وفضل دستنيشن ومنصور الإريتري وحاتم ووائل دكا وكمال غلاسكو وعلي ود العسيلات وبشير عمر ومحمد السعودي وحليم ورمزي وعماد حميد والطيب القديم وأمين عبد الوهاب وغيرهم.
بريطانيا العظمى تفتح ذراعيها
إحساسي كان يحدثني بأنني يوماً ما سأدخل إلى بريطانيا خاصة من منطقة (اللفة) لأسباب مختلفة ومنطقية مثل أن السائق غالباً لا يعرف من بداخل الشاحنة فهو يوقف شاحنته لعدة دقائق ويذهب للسوبر ماركت لشراء شيئاً ما أو يذهب الى الحمامات الملحقة بالسوبر ماركت.
وأيضاً لأن معظمهم ذاهبون إلى بريطانيا مباشرة، لذا كنت أستحمل البرد الشديد والرطوبة العالية التي تكثر بعد الساعة الخامسة صباحاً ودرجة  برودة تصل حتى ما دون الصفر.
وفي ذلك اليوم السعيد والبهيج والرائع والذي أنتظره قرابة الأربعة أشهر منذ دخولي أوروبا، ولقرابة الــ 16 عاماً منذ بدء الحلم الكبير بفارغ الصبر، هطلت أمطار الخير والبركة إيذاناً برحيلنا نحو بريطانيا.
حيث جاءت شاحنة بيضاء مغلقة ومقفلة بإحكام ووقفت لدقائق معدودة كانت كافية جداً بالنسبة إلينا وذلك في محطة الوقود حيث نزل السائق ودخل السوبر ماركت مسرعاً.
 وقبل ذلك الوقت بقليل أي بعد أن إشتدت الأمطار أقترح علينا المهرب (هنوك) بالرجوع إلى المخيم والمحاولة في وقت لاحق، وعلى بعض الشباب التطوع (كان عددنا عشرة تقريباً) بإرجاع الأخشاب التي كنا نجلس عليها إلى الغابة المجاورة لإستخدامها في الأيام التالية.
أخذ الأخشاب كل من أصدقائي أمين عبد الوهاب وود المأمون وصابون وآخرون ونحن قررنا العودة للمخيم ومشينا قليلاً عدة خطوات، ثم لمحنا الشاحنة البيضاء وفوراً نزل منها السائق، وشاحنة أخرى تقف خلفها بأمتار قليلة، حينها المهرب سألنا إن كنا نريد المجازفة بالركوب فيها أم لا؟ وافقت فوراً وبدون تردد.
وكان معي عندما ركبنا الشاحنة الرفيق الأخ (نبيل حامد) والإثيوبي الأخ (مسفن دنانو) والذي بدوره إنتظر لثمانية أشهر هناك، وقبل الصعود أصريت على إحدى الإريتريات أن تجرب حظها وتصعد معنا إلا أنها تحججت بالأمطار والتعب.
ثم قفل المهرب علينا الباب بإحكام وذهب لحاله وأصبحنا لحالنا، وجاء السائق وقبل أن يقود شاحنته سمع أصوات بوق وصفارات سائق الشاحنة الأخرى والذي رأي كل شيء.
ومع هطول الأمطار الغزيرة تلك ظن سائق شاحنتنا أن السائق الآخر يريده أن يغادر بسرعة لكي يقف مكانه، على الأقل هذا ما ظنه بينما كان ينبهه بأن هنالك مهاجرين في شاحنته.
جاء هذا الإنذار في صالحنا تماماً وتحركت الشاحنة غير آبهة بشيء نحو كاليه وبسرعة كبيرة، والتي طالما تمنيت أن أدخل عبرها وعبر قطاراتها ونفقها إلى بريطانيا.
كانت مغادرتنا لفرنسا وستينفورد ومعها هازبوروك تجاه نفق المانش من مدينة كاليس والدخول لبريطانيا العظمى في الصباحات المبكرة من يوم الأربعاء الموافق 28 أكتوبر 2015م - 15 محرم 1437هـ عندما نزلنا تحديداً في مدينة بدفورد شمال لندن وكانت الساعة حوالي الثامنة والنصف صباحاً بتوقيت غرينتش الصيفي.
الشاحنة كانت محملة بالسجادات الصغيرة وبعض البضائع الخفيفة، دخلت الشاحنة ذلك القطار المخصص لنقل الشاحنات بمحطة كاليه الكبرى والذي تحرك بدوره بعد دقائق فقط من وقوف الشاحنة فوقه، حيث سمعنا عجلات القطار ترتفع رويداً رويداً وسرعته تزداد ثانية بعد ثانية.
لا أعرف كيف أوصف ذلك الإحساس الجميل والمتعاظم عندما دخلنا نفق المانش، كل شريط الهجرة منذ شهور وكل المعاناة التي مررت بها يظهر أمامي وكأنه فيلم سينمائي.
تمنينا أن تستلمنا الشرطة البريطانية فوراً لأن ذلك سيكون في صالحا ومصلحتنا فيما بعد، لذا وبعد خروج الشاحنة من القطار الواصل لبريطانيا إتخذت فوراً الطريق السريع نحو وجهتها ببريطانيا حيث عرفنا أنها ستسلم هذه البضاعة في مدينة ليدز بوسط البلاد من خلال الأوراق المطبوعة (الوجهة) أو الدستنيشون كما تعرف في أوساط المهربين والمهاجرين، بدورنا طرقنا أبواب وأطراف وجنبات الشاحنة من الداخل بقوة لعلها تتوقف.
لكنها توقفت بعد ساعات بإحدى مواقف الشاحنات بمدينة (بدفورد) شمال لندن والقريبة من مطار لوتون (إحدى مطارات لندن الست)، وفتح الشرطي العجوز ومعه شرطية شابة باب الشاحنة وهم يقولون لنا (مرحباً بكم في يو كيه).
بينما وقف السائق مذهولاً لا يصدق ما يراه عيناه، ولكنه تصرف بحكمة وخبرة بإخباره الشرطة، فلو لم يفعل ذلك لأتهموه بأنه مهرب وسيسجن فكاميرات المراقبة في أي ركن بالمملكة المتحدة، وكنت أود أن أعتذر له فلا ذنبه له فيما يحصل.
بعد ربع ساعة من هناك إقتادونا إلى مركز (شرطة بدفورد) وفي الطريق كانوا يسألوننا إن كنا جائعين أو عطشى أو مرضى!! وتم تفتيشنا هناك في القسم، ثم حبسنا لمدة 24 ساعة لأننا دخلنا البلاد بطريقة غير شرعية وتم أخذ بصماتنا والتحقيق معنا لدقائق معدودة، وكنا في أمس الحاجة لمكان ننام فيه يوماً كاملاً، وكل واحد منا كان في محبس لوحده.
كان السجن (حقيقة سجن 5 نجوم) أفضل مكان لكي ننام فيه بعد أن جفت ملابسنا قليلاً، وتحفزوا على هواتفنا الشخصية في كل فترة الحبس، ووزعوا لنا وجبات سريعة ومشروبات ساخنة وإستسلمنا لسلطان النوم، فالنوم سلطان.
بعد 24 ساعة من الحبس الجميل تم تحويلنا إلى معسكر مغلق وقريب من القسم بمنطقة (يارلز وود) وهو معسكر مثل الفندق ولكن ممنوع الخروج وبه كل ما يحتاجه الإنسان وكل واحد بغرفته الخاصة، ومكثنا فيه ليومان ونصف.
وقبل تحويلنا إلى مدينة (غلاسكو) الإسكتلندية تم التحقيق معنا للمرة الثانية وفي مساء اليوم الثالث حولنا ثلاثتنا ومعنا ثلاث أكراد إلى غلاسكو.
تحديداً التحول لمدينة غلاسكو الإسكتلندية تم في صباح يوم الأحد الموافق 1 نوفمبر 2015م، وخلال شهر كامل بغلاسكو المسؤولين هناك إستضافونا جيداً في عدة فنادق بلغت الست فنادق منها فنادق 5 نجوم، ثم تم تحويلي لمسكن مؤقت ولمدة أربعة أشهر بمنطقة (سبرينغ بيرن) وواصلنا إجراءاتنا هناك خطوة بخطوة.
دخل علينا العام الجديد ونحن بغلاسكو يوم الجمعة الموافق 1 يناير 2016م، ونزلت المقابلة الكبرى يوم 2 فبراير في العام 2016م، وأخذت الإقامة الدائمة يوم 12 فبراير 2016م - 4 جمادى الأولى 1437هـ.
وبعد أربعة أشهر من إقامتي في البيت تم تحويلي إلى هوستيل بشارع قريت ويسترن رود بمنطقة ماري هيل الراقية، والهوستيلات هي عبارة عن (مساكن ونزل شبابية مؤقتة شبيهة بالفنادق) بعضها تتبع للحكومة وبعضها لشركات خاصة أو أفراد،
 إيذاناً بتسليمنا بيوت ومساكن المجلس المحلي.
بعد قرابة السبعة أشهر منذ دخولي بريطانيا ومكوثي بغلاسكو أكبر مدن إسكتلندا وبعد الحصول على معظم الأوراق الأساسية والرسمية، بقيت الخطوة الأهم في مشروعي القديم المتجدد وهو العيش بلندن في لندن بوسطها.
وبالفعل إنتقلت إلى لندن وفي لندن بوسطها وبالتحديد في حي كنزينغتون Kensington الراقي والمجاور لحي شيلسي العريق منذ شهر يوليو 2016م، فقبل ذلك أي في شهر مايو 2016م مكثت بحي ويستمنستر الراقي أيضاً، والحمد لله على كل ما مررت به حلوه ومره.
الحلم يبدأ صغيراً ثم يكبر ويكبر، وعليك بسلاح الصبر والعزيمة والإصرار وتوقع الأسوأ قبل الأفضل ولا تستسلم لشيء وأقهر الظروف، وأجد الحلول المناسبة والبدائل عند الإخفاق، وأرسم خطاً واضحاً في حياتك مع التركيز على هدف معين، فلا مستحيل تحت الشمس.
أفعل ما عليك وأترك الباقي لرب العباد فهو أدرى بما سينفعك وما سيضرك، تصالح مع نفسك ثم مع من حولك، وتمنى الخير للجميع، وحول الظروف الصعبة لصالحك، وفي الختام يذهب كل شيء وتبقى فقط الإنجازات والإنكسارات والذكريات.
وكما قال شاعري المفضل التونسي أنيس شوشان:
عش حــــــراً يا إبن آدم فهذه الأرض للجميع.

هناك 5 تعليقات:

  1. أدخل تعليقك...
    أنك لمغامر والله أقوى قصة كفاح ومغامرة على أرض الواقع.
    لكن ما سبب هذا كله أن أبناؤنا السودانيين يخاطرون بحياتهم لان دولتهم لم توفر لهم ما يجب توفيره من تعليم، صحة ، وكل متطلبات الحياة أمل من الحكومة الجديدة أن توفر وتسعى بكل قصار جهدها أن توفر ذلك لكى لا يلجئون أبناؤنا إلي ذلك فأنت نجحت هذا لا يعني بأن الكل سينجح

    ردحذف
  2. أدخل تعليقك...
    أنك لمغامر والله أقوى قصة كفاح ومغامرة على أرض الواقع.
    لكن ما سبب هذا كله أن أبناؤنا السودانيين يخاطرون بحياتهم لان دولتهم لم توفر لهم ما يجب توفيره من تعليم، صحة ، وكل متطلبات الحياة أمل من الحكومة الجديدة أن توفر وتسعى بكل قصار جهدها أن توفر ذلك لكى لا يلجئون أبناؤنا إلي ذلك فأنت نجحت هذا لا يعني بأن الكل سينجح
    أيها المكافح لك كل الشكر والشكر مني لأنك عزمت أن تعيش حياة كريمة من أجل البقاء وانت أيضا لدي حلما أتمنى من الله أن يحققه لي وتعلمت منك ان لا نيأس من من تحقيق حلمنا مهما كانت الظروف والمعوقات التي تواجهة طريق حلمنا بكل الطرق..هذة قصتك انت امامنا هي والله افضل القصص لأخذ من ما فيها من حكم ومغامرات وصبر وتحمل وعلى ارسم طريق النجاح أو تحقيق حلمنا. وفقك الله أيها المغامر أينما حللت وانا سوداني الجنسية مثلك اسكن الخرطوم السجانة( المايقوما) أفتخر بك والله

    ردحذف
  3. أدخل تعليقك...
    أنك لمغامر والله أقوى قصة كفاح ومغامرة على أرض الواقع.
    لكن ما سبب هذا كله أن أبناؤنا السودانيين يخاطرون بحياتهم لان دولتهم لم توفر لهم ما يجب توفيره من تعليم، صحة ، وكل متطلبات الحياة أمل من الحكومة الجديدة أن توفر وتسعى بكل قصار جهدها أن توفر ذلك لكى لا يلجئون أبناؤنا إلي ذلك فأنت نجحت هذا لا يعني بأن الكل سينجح
    أيها المكافح لك كل الشكر والشكر مني لأنك عزمت أن تعيش حياة كريمة من أجل البقاء وانت أيضا لدي حلما أتمنى من الله أن يحققه لي وتعلمت منك ان لا نيأس من من تحقيق حلمنا مهما كانت الظروف والمعوقات التي تواجهة طريق حلمنا بكل الطرق..هذة قصتك انت امامنا هي والله افضل القصص لأخذ من ما فيها من حكم ومغامرات وصبر وتحمل وعلى ارسم طريق النجاح أو تحقيق حلمنا. وفقك الله أيها المغامر أينما حللت وانا سوداني الجنسية مثلك اسكن الخرطوم السجانة( المايقوما) أفتخر بك والله

    ردحذف
  4. قصة خيالية ومشوقة ورائعة
    تستحق ان تكون فيلما سينمائيا
    او مسلسلا جميلا

    ردحذف
  5. قصة خيالية ومشوقة ورائعة
    تستحق ان تكون فيلما سينمائيا
    او مسلسلا جميلا

    ردحذف