الخميس، 21 سبتمبر 2017

وثائقي مملكة كرمة يعرض في فرنسا ولكن في السودان؟!!

في يوم صيفي ساخن بالعاصمة السودانية المغلوبة على أمرها "الخرطوم" جلست كالمعتاد أمام جهاز الإستقبال الفضائي أتحسس الريموت كونترول بيدي اليمنى أقلب القنوات الفضائية تباعاً، كان هذا في الساعة السادسة من عصر يوم الخميس الموافق الـ 23 من أبريل العام 2009م بمنزلنا الكائن بالحلة الجديدة، من حسن حظي أنني أحب البرامج الوثائقية والأخبارية ونوعاً ما برامج الرياضة والمنوعات والأفلام، ففي مثل هذا الوقت تكثر البرامج الوثائقية والهادفة.
شرعت في البحث عن جميع القنوات لكي أجد برنامجاً مناسباً يشدني لحضوره، إلى أن تملكتني الدهشة من جراء ما رأيت، إنها أشجار النخيل الباسقة والنيل والصحراء والأرض الخضراء، وبيوت الطين والحجر، يتوسطهم مبنى شامخ ورهيب ومتين وعريق ولا يقدر بكل كنوز الأرض وما عليها، لم يكن هذا الصرح المعماري سوى "الدفوفة" وما أدراك ما هي الدفوفة؟!.
لم أندهش كثيراً بسبب الدفوفة لأنها تستحق أكثر من ذلك بكثير، بل بسبب القناة التي بثت هذا الفيلم الوثائقي الرائع فهذه القناة لم تكن سوى القناة الفرنسية الخامسة tv5 Monde والتي تبث معظم برامجها باللغة العربية لأنها موجهة لسكان الشرق الأوسط، تسمرت في مجلسي ولم أشعر بأنامل يدي وهي تضغط علــــى زر vol+ الخاص بزيادة الصوت حتى كادت سماعات التلفاز تنفجر أمامي، لحظتها غمرتني سعادة كبيرة لم تجعلني أشعر بحرّ ذلك اليوم الساخن أبداً، حزنت كثيراً لأنني لم أشاهد هذا الفيلم الوثائقي الرائع منذ البداية فقد كان في منتصفه.
الفيلم كان باللغة الفرنسية مع الترجمة باللغة العربية، تقنية عالية في التصوير والإخراج وإختيار موفق لزوايا التصوير، لم يترك البروفيسور العلامة السويسري "شارلس بونيه" أية شاردة سواء كبيرة أو صغيرة إلا وأحصاها، وشرحها، وفسرها، وتعمق في سبر أغوارها، نقلوا لنا المناظر والبقع الأثرية بكل دقة وروعة من الدفوفة الغربية والشرقية والدوكي قيل "التل الأحمر".
رأيت عمال الآثار يتحركون ببطء وفي صفوف متساوية مثل العسكر وهم ينهمكون في عملهم وبتوصيات مباشرة من المشرفين، كما لم ينسوا تصوير الإحتفال الذي أقيم خصيصاً للبروفيسور "شارلس بونيه" بمرور 40 عاماً على وجوده بين أحضان حضارة مملكة كرمة النوبية العريقة، فكرمة لم تبخل عليه بشئ وهو بادلها نفس الكرم.
لم يكن المتحف في كرمة قد بني بعد، لذا لم نرى له أي أثر في دقائق الفيلم، عرضوا في الفيلم الوثائقي صوراً تقريبية بالحاسوب لمملكة كرمة كما كانت في أوج عظمتها وعنفوانها وقوتها، ويا ليتها تعود كما كانت بكل جبروتها وصفائها ومجدها وعزتها وحكمتها وفلسفتها تقود العالم، حديث متواصل من البروف عن ملوك كرمة القدماء، وتطرق بحديثه عن الإكتشاف المهم في منطقة الدوكي قيل "التل الأحمر" خاصة إكتشاف تماثيل الملوك العظماء "تهارقا وبعانخي" وبقية العقد الفريد من العائلة المالكة والحاكمة في ذلك الوقت.
 كان كل هذا "أي حضارة مملكة كرمة" في التلفزيون الفرنسي الأنيق حيث لا ناقة ولا جمل لهم فيها، هم فقط يحبون العلم وبحوثه ومولعون بالحضارات المنسية والغابرة.
بينما في الجانب الآخر أقصد القنوات الفضائية السودانية لا حس ولا خبر ولا يحزنون، وفي كل يوم لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، يعرضون دعايات البسكويت والبوهيات والدلالات الخاصة بالعربات المركونة في ميناء بورتسودان.
يعرضون الإعلانات الخاصة بحبال بنان؟!، وبرامجهم مملة ومتشابهة وتختلف عناوين البرامج والوجوه المقدمة فقط، برامجهم عبارة عن إعلامية ملئت وجهها بكل مساحيق التجميل وبجانبها بعض الوجوه الديناصورية، كلمة من المذيعة، وكلمتان من الوجه الديناصوري، وأغنية للمقلد الذي معهم، وهكذا دواليك، غير هذا لا يوجد شئ، ويا رب أرحمنا من دعايات البسكويت ومن إعلانات حبال بنان.
نعود لمحبوبتنا كرمة فقد كنت أموت غيظاً وندماً كلما مرت الدقائق وأنا أشاهد هذا التاريخ والإرث الحضاري المتدفق أمامي لا حول ولا قوة لي، لأنه عرض في تلفزيون أوروبي وتلفزيوناتنا محلك سر!!، ليتني أستطعت تسجيله كاملاً حتى أقوم بتحميله في كل مواقع الأسافير ليراهـ كل الناس، وبحثت عنه في مواقع مشهورة ولم أجده، وما زلت أبحث.
 ليتني أسمعت كل سكان الأرض "أفتحوا يا هؤلاء القناة الفرنسية الخامسة لتشاهدوا أعظم حضارة مرت في تاريخ البشرية"، بينما إعلام دولتنا لا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً، ولن ننتظر منهم شيئاً؟!!.
تخيلوا معي واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية "مملكة كرمة" النوبية مثلها مثل حضارة الإغريق في أرض اليونان وحضارة الروم في أرض إيطاليا وحضارة الفرس في أرض إيران والحضارة الفرعونية في أرض مصر وحضارة هنود المايا والأنكا في أرض الأمريكتين وحضارة الصين في أرض التنين ...إلخ، غير مدرجة في المنهج الدراسي بينما مملكة الفونج وإمارة المسبعات مدرجة وبالتفصيل الممل "مع إحترامي لكل الممالك"، بخلوا عليكِ يا كرمة بسطر واحد وهم من أبناء جلدتك بينما أنصفوكِ الغرباء "غريب اليد والوجه واللسان".
حتى تلفزيون السودان أقصد تلفزيون "المؤتمر الوطني المستعرب" وغيره من التلفزيونات والقنوات الموجودة في السودان يتحدثون عن حضارة "مملكة كرمة" بشئ من الخجل وكأنها موجودة في دولة بابوا نيو غينيا!!!؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق